العدالة الاجتماعيّة مشكلة مزمنة بحاجة لحلّ!
د. محمد سيد أحمد
تُعدّ قضية العدالة الاجتماعيّة إحدى المشكلات الرئيسية التي احتلت مساحة كبيرة في الفكر الإنساني بصفة عامة والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة، والعدالة الاجتماعية مطلب إنساني عالمي فيمكن القول بما لا يدع مجالاً للشك إنّ تاريخ البشرية بما يحمله من صراع طبقي بين مَن يملكون ومَن لا يملكون كان يهدف ولا يزال إلى تحقيق حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية، وردم الفجوة بين الأغنياء الذين يحصلون على كلّ ما يشتهون بسهولة ويسر وبين الفقراء الذين يحصلون على متطلباتهم الحياتيّة الضروريّة بصعوبة وعسر، ويمكننا أيضاً التأكيد على أنّ الأديان والرسالات السماوية كانت تهدف ضمن ما تهدف إلى إقرار العدالة الاجتماعية بين البشر وحلّ هذه المشكلة المزمنة، وما الثورات التي شهدها التاريخ الإنساني إلا وكانت أحد أهمّ أهدافها ومطالبها الرئيسية تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المجتمعات التي شهدتها.
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص فالمجتمع المصري أحد المجتمعات التي ناضل الفقراء والكادحون والمهمّشون فيها من أجل تحقيق حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية على مرّ العصور، فمنذ العصر الفرعوني والفقراء يطالبون بالعدالة الاجتماعية من الحاكم وتسجل جدران المعابد الفرعونية العديد من القصص والروايات التي تؤكد كلامنا وتدعمه؛ فما شكوى الفلاح الفصيح للفرعون الإله من جور وظلم موظفيه إلا مطالبة بحلّ مشكلة العدالة الاجتماعية، وما نضال الشعب المصري ضدّ قوى الاحتلال عبر التاريخ القديم والحديث إلا بهدف التحرر من الاستغلال والحصول على حقوقه المشروعة في خيرات بلادهم.
وفي العصر الحديث الذي يؤرّخ له بالحملة الفرنسية على مصر والتي تولى بعدها محمد علي باشا مقاليد الحكم، ومنذ اللحظة الأولى كان يرغب في وضع حلّ لمشكلة العدالة الاجتماعية بين المصريين خاصة الفلاحين الذين كانوا يعانون أشدّ المعاناة في ظلّ نظام اقتصادي ظالم كان يُعرف بنظام الالتزام، حيث كان الحاكم يوزع أراضي الدولة على مجموعة من الملتزمين الذين يسدّدون الضرائب للدولة نيابة عن الفلاحين ثم يتولون هم جمع الضرائب من الفلاحين وكانوا يجمعونها أضعافاً مضاعفة بخلاف تسخير الفلاحين للعمل في أراضيهم الخاصة التي كان يطلق عليها اسم (الوسيه) وهو ما دفع الفلاحين للهروب من الظلم والقهر والاستبداد وهجر الأرض الزراعيّة، لذلك حين جاء محمد علي باشا ألغى نظام الالتزام وأحلّ محله نظام الاحتكار، فأصبح هو المالك الوحيد للأرض الزراعية في مصر، وبدأت الدولة في جمع الضرائب مرة واحدة في العام مما أشعر الفلاح بنوع من العدالة الاجتماعيّة المؤقتة، وفي هذا الصدد يسجل المستشرق وليم ادور لين أنّ الفلاحين بعد إلغاء نظام الالتزام عندما كانوا يقابلون الملتزمين القدامى كانوا يتفاخرون أمامهم بأنهم أصبحوا فلاحي الباشا يقصدون محمد علي باشا المالك الجديد لأرض مصر.
ومع مرور الوقت بدأ المصريون يشعرون بغياب العدالة الاجتماعية مع أبناء وأحفاد محمد علي باشا الذين قاموا بمنح الأراضي على شكل هبات لبعض العائلات من المقرّبين منهم من دون وجه حق، فتشكل الإقطاع الذي امتلك مئات وآلاف الأفدنة وقام بممارسة الظلم والقهر والاستبداد على الفلاحين المصريين وهم أصحاب الأرض الحقيقيّون، وعندما جاءت ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 قام جمال عبد الناصر ورفاقه بالانتصار للفقراء والكادحين من الشعب المصري، وعلى رأسهم الفلاحون، فكانت قوانين الإصلاح الزراعي التي انتزعت الأرض من الإقطاعيين لتوزع على الفلاحين ليشعروا بالعدالة الاجتماعية المفقودة، ثم كانت جملة السياسات المنحازة للفقراء والكادحين الذين كانوا يمثلون أكثر من 80 % من الشعب المصري فتغيّرت الخريطة الطبقيّة تماماً حيث تشكلت الطبقة الوسطى المصرية التي تراوحت تقديراتها بين 35 و45 % وفقاً للتقارير والدراسات العلمية في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، ويرجع ذلك لوضع جمال عبد الناصر قضية العدالة الاجتماعية في مقدمة أولوياته.
ومع صعود الرئيس السادات لسدّة الحكم قرّر التخلي عن السياسات المنحازة للفقراء والكادحين والتي حققت لهم قدراً لا بأس به من العدالة الاجتماعية، فكانت سياسات الانفتاح الاقتصاديّ وإطلاق آليات السوق وتبني السياسة الرأسمالية التابعة وهي السياسات التي تعمل لصالح الطبقات والفئات والشرائح العليا داخل المجتمع وتزيد من معاناة الطبقات والفئات والشرائح الوسطى والدنيا، ومع مرور الوقت بدأت معاناة الفقراء تعود من جديد وبدأت مناداتهم بتحقيق العدالة الاجتماعية فكانت انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977 خير شاهد وخير دليل.
وجاء الرئيس مبارك ليسير على نهج الرئيس السادات نفسه ووفقاً للسياسات نفسها التي تعمّق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وصبر المصريون كثيراً قبل خروجهم عليه في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 مطالبين بالعدالة الاجتماعيّة ضمن مطالب انتفاضتهم عليه، ورغم مرور عشر سنوات على رحيل الرئيس مبارك عن السلطة لا تزال مشكلة العدالة الاجتماعية قائمة، ولا توجد لها حلول ناجعة ذلك لأنّ السياسات الرأسمالية التابعة التي تنتهجها الدولة المصرية، وعمليات الإصلاح الاقتصادي وفقا لروشتة صندوق النقد الدولي، والتي تسرع في عملية بيع ما تبقى من ممتلكات الشعب متمثلة في شركات ومصانع القطاع العام لا يمكن أن ينتج عنها إلا المزيد من تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتكريس مزيد من التعقيد لمشكلة العدالة الاجتماعية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.