حذار الجنون والتعصّب والعبوديّة

الياس عشي

ما رأيُ بعض اللبنانيين فيما لو قصدوا، في يوم من الأيام، مدينة جبيل، على سبيل المثال لا الحصر، ورأوا على مدخلها لافتة كتب عليها: «جبيل قلعة المسيحيين»؟

وما رأيهم لو انتقلوا إلى بعلبك، وفوجئوا بيافطة تعلن بأن بعلبك هي «قلعة الشيعة»، وفي مكان ثالث: «المختارة قلعة الموحّدين» … و … من دون أن ننسى أن طرابلس، مدينة ماء الورد كما أسمّيها دائماً، قد سبقتهم في هذا «الإبداع» ورحبت بزوّارها بعبارة «طرابلس قلعة المسلمين».

من الطبيعي، لو حدث هذا الافتراض، أن تحذو حذوهم الطوائف الأخرى، طالما أن النظام الرسمي للدولة اللبنانية هو نظام طائفي كُرّس في وثيقة الطائف .

من الطبيعي أيضاً أن ينسحب العلم اللبناني من الخدمة، ويترك السماء للذين يتقاتلون عليها، ويقدّم استقالته، مفسحاً في المجال لرايات دينية تتحول كلّ منها، مع الزمن، إلى علم رسمي للمدينة التي ترفعه، وتستميت في الدفاع عنه.

من الطبيعي أيضاً وأيضاً أن تنشط السوق السوداء، ويزداد الطلب على شراء الأعلام، واليافطات، والتعابير، والشعارات الدينية والطائفية، وآن تأخذ الفكرة برقاب الأخرى، فيستولي رجال الدين على السلطة، ويصبح الكلام على الزواج المدني الاختياري جريمة يحاكم عليها القانون! ولمَ لا؟ فالمدينة مدينتهم، والراية رايتهم، والمنابر لهم، والربط والحلّ في أيديهم، ولا تسقط شعرة من رؤوس الناس إلاّ «بإرادتهم»، وليس بإرادة « أبيهم الذي في السماء».

قبل أيّام أطلّ الجدال البيزنطي برأسه من ساحة عبد الحميد كرامي، وانفسم الناس بين مؤيّد ومعارض لليافطة التي تكرّس طرابلس «قلعة للمسلمين»، وللراية السوداء التي خرجت، نتيجة الحوادث، من التعميم إلى التخصيص.

أحسست بلوثة تجتاح مدينة العلم والعلماء، تذكّرت المغفور له دولة الرئيس رشيد كرامي الذي قال لمن سأله عن مشاعره وهو يرى اسم الجلالة على المنصّة ذاتها التي كان يحتلّها المغفور له والده عبد الحميد، فأجابه على ذمّة الراوي:

«يبدو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يجد أطهر من هذا المكان، فاختاره منصّة له».

موقف نبيل، وكلام هادئ، وحنكة سياسية . صفات تدفعك إلى التساؤل: ماذا جرى حتّى سقط الجميع في الهاوية؟ وهل بقي عمالقة أم أنّ عصر الأقزام قد بدأ؟ ألم يقل الفيلسوف جست:

«الذي لا يستطيع أن يفكّر يكون مجنوناً، والذي لا يريد أن يفكّر يكون متعصّباً، والذي لا يجرؤ على أن يفكّر يكون عبداً».

فإذا اجتمع الجنون، والتعصب، والعبودية، بشّر بالخراب، وقل على الدنيا السلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى