الحظر الدستوري على إقرار مشروع موازنة 2021 في ظلّ حكومة مستقيلة!
} جهاد إسماعيل*
ثمة نقاشٌ دستوري وسياسي حول إمكانية حكومة مستقيلة في الانعقاد وإقرار الموازنة بهدف إحالتها الى مجلس النواب، لجهة أنّ هناك من يدعو الى ضرورة انعقاد الحكومة المستقيلة للالتزام بالمهل المحدّدة في الدستور بشأن الموازنة العامة، وهناك من يرى أن لا إمكانية لحكومة مستقيلة في الاجتماع مهما كانت الظروف والأسباب، ما يُوجب العودة الى المبادئ الدستورية والقانونية التالية:
ـ تنصّ الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور على أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال»،
منّ يُمعن النظر في هذا النص، يتبيّن له أنّ المشترع الدستوري قد ساوى بين حكومة محجوبة الثقة، وبين حكومة مستقيلة، في شأن ممارسة صلاحياتها، ما يعني أنّ استقالة الحكومة تُعفيها من المسؤولية أمام مجلس النواب، لأنّ النظام السياسي في لبنان، بحسب مقدمة الدستور، يقوم على الصيغة البرلمانية، ولا يمكن للحكومة في ظلّ هذه الصيغة العمل من دون ثقة البرلمان، وهذه الثقة تمتدّ مفاعيلها لتشمل عمر الحكومة، وعند استقالتها تزول هذه المسؤولية وتنتفي، حكماً، الرقابة السياسية للسلطة التشريعية، لا سيما أنّ نص المادة 65 من الدستور قد اعتبر إقرار الموازنة العامة في مجلس الوزراء من المواضيع الأساسية التي تحتاج الى موافقة ثلثي عدد اعضاء الحكومة…
ـ لما كان الاجتهاد من مصادر القاعدة الحقوقية، فإنّ الارتكاز عليه، في ظلّ غياب النصّ الواضح، ينسجم مع المنطق الطبيعي للأمور، لأنّ مجلس شورى الدولة كان قد رسم النطاق الواجب اعتماده في إطار تصريف الأعمال وفق منطوق الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور، وذلك عندما وضع تصنيفاً ثلاثياً على النحو التالي:
ـ الأعمال العاديّة الإداريّة: أيّ الأعمال اليومية التي يعود إلى الإدارة إتمامها، حيث يجوز ممارستها في ظلّ حكومة تصريف الأعمال…
ـ الأعمال التصرفيّة: تهدف إلى إحداث أعباءٍ جديدةٍ أو التصرّف باعتماداتٍ هامّة أو إدخال تغييرٍ جوهريّ على سير المصالح العامة تحت طائلة المسؤوليّة الوزاريّة… حيثُ لا يجوز لحكومة مستقيلة من حيث المبدأ أن تقوم بها.
ـ الأعمال الواردة في الظروف الاستثنائيّة: انها تدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، والأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محددة تحت طائلة السقوط والإبطال.
وبما أنّ مشروع الموازنة العامة من الأعباء الجديدة، ومن خارج إطار التدابير التي تفرضها الظروف الاستثنائية، لذلك فإنه لا يجوز إقرارها في ظلّ حكومة تصريف أعمال، لأنها من الأعمال التصرفية…
ـ عملاً بأحكام المادتين 32، 86 من الدستور يُصدّق مجلس النواب على الموازنة الجديدة خلال الدورة العادية الثانية التي تبدأ من أول يوم ثلاثاء يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول من كلّ سنة وتنتهي في 31 كانون الأول، بحيث لا تدخل السنة الجديدة إلا والموازنة العائدة لها قد صدّقت، ما يؤكد أنّ المهل الدستورية قد انقضت وباتت الدولة، والحال هذه، أمام خرق دستوري، ما لا يتناغم مع ذرائع وزارة المال في ضرورة إقرار مشروع الموازنة العامة في المواعيد المحدّدة، من دون أن ينقضي هذا الالتزام الدستوري الذي يستلزم إتمامه من خلال حكومة مسؤولة أمام مجلس النواب، بدليل أنّ المشترع قد وضع بديلاً عن ذلك، عندما اعتبر انّ تأخر المجلس عن التصديق على الموازنة في الدورة العادية الثانية، يُوجب على رئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، دعوة المجلس النيابي الى دورة استثنائية تستمرّ لغاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة، افتراضاً من المشترع أنّ المؤسّسات الدستورية مكتملة وأنّ الحكومة مسؤولة وتقوم بواجباتها حين أشار إلى عبارة «رئيس الحكومة» لا «رئيس حكومة تصريف أعمال…»
خصوصاً أنّ المشرّع الدستوري عاد وأجاز بالأخذ في القاعدة الاثني عشرية خلال شهر كانون الثاني، بهدف قوننة الجباية والصرف الى حين إقرار الموازنة العامة عندما أشار في المادة 86 الى أنّ «في مدة الدورة الاستثنائية المذكورة تُجبى الضرائب والتكاليف والرسوم، وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساساً ويُضاف اليها ما فُتح من الاعتمادات الإضافية الدائمة… وتأخذ الحكومة شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثني عشرية»
ما يؤكد، وفق هذا النص، أنّ المشترع يُخاطب حكومة قائمة بذاتها لا مستقيلة دستورياً وغير مسؤولة أمام المجلس النيابي المطلوب منه التصديق على موازنة أقرّتها الحكومة.
ـ إنّ التذرّع بالسوابق من أجل تجاوز الأصول ليس بالأمر السليم، اذ انّ البعض يؤكد إمكانية انعقاد حكومة مستقيلة وإقرار مشروع الموازنة، بذريعة انّ حكومة الرئيس رشيد كرامي، عام 1969، أقرّت مشروع الموازنة، في ظلّ تصريف الأعمال، لأنّ التطبيق الخاطئ في مكان، لا يطيح المبدأ الواجب تطبيقه في كلّ الأمكنة والأزمنة، علاوة على أنّ العجلة أو الضرورة تستلزم، دون إبطاء، تشكيل الحكومة لا تعويم حكومة غير مسؤولة!
لذلك، لا يجوز، تحت وطأة الضرورة، إحداث تغييراً في السياسات المالية، وتفسير المادة الدستورية على قياس الآراء والأهواء، وإسناد هذا القياس الى الفقه أو الرأي في ظلّ النص الغامض، لأنّ نطاق تصريف الأعمال يطال أعمالاً بدأت بها الحكومة قبل استقالتها، لكنه لا يمكن أن يسري على أعمال لم تبدأ بها وتؤدي، في الوقت نفسه، الى أعباء جديدة تُلزم الحكومة الجديدة بها!
*كاتب وباحث في القانون الدستوري