بين ضهور الشوير والقنيطرة
} الأمين سمير رفعت
هلّل القوميون الاجتماعيون طويلاً لعودتهم إلى مناطق قوّتهم ونهضتهم كالكورة والمتن الشمالي، بعد اندحار القوى الانعزالية التي سيطرت على تلك المناطق بدعم من العدو «الإسرائيلي»، وشهدت تلك المناطق اللبنانية وغيرها قوافل من القوميين الاجتماعيين وأنصارهم يعودون لتفقد بيوتهم وقراهم ومزارعهم، فوجدوا كثيراً منها قد دُمّر عن بكرة أبيه بفعل الحقد الأعمى.
اتفقتُ وزوجتي على زيارة ضهور الشوير بعد تحريرها من أيادي الشرّ، ذهبنا ذات صباح وقصدنا منزل الزعيم سعاده، لنُفاجأ بأنّ الانعزاليين من القوى الكتائبية وأنصارهم قد حاولوا تدميره بالكامل، فكان عصيّاً، وبقي منه بعض الحجارة والأعمدة التي قاومت الديناميت والقذائف واليد الآثمة.
وقفنا نتأمّل فعل الحاقدين بمنزل لم يكتمل لشخص غاب جسدياً منذ العام 1949، لكن لمجرد ارتباط هذه الحجارة بِاسمه تعرّضت لكلّ هذا الحقد. شهدت زوجتي في عينيّ دموعاً حَرى تحكي عني مدى تأثري بما شاهدت، وكذلك عن مدى فرحي بعودة هذه المناطق إلى كنف الحزب… قفلنا عائدَين إلى بيروت.
بعد أيام، وخلال زيارتي الأسبوعية إلى دمشق لقراءة نشرات الأخبار في التلفزيون الشامي، قمت وزوجتي بالتخطيط لزيارة مدينة القنيطرة المحررة… ذهبنا برفقة أحد الأقرباء ذات صباح أيضاً من العام 1982. قطعنا الحواجز التي تطالب بأذونات معيّنة لزيارة المناطق الحدودية، فكانت معرفة عناصر تلك الحواجز بي من خلال التلفزيون جواز مرورنا.
بلغنا القنيطرة المحررة… جلنا فيها بيتاً بيتاً، أو ما كان فيها من بيوت أصبحت حجارتها وسقوفها على سويّة الأرض. لم نجد بيتاً قائماً، إذ كان تدمير المدينة مُمنهجاً ومدروساً لمنع قيام الحياة فيها لاحقاً، ورغم هذا الدمار العظيم كانت تلمع في عينيّ بهجة النصر باسترجاع المدينة، حتى وصلنا إلى دار واحدة ما زالت قائمة عند آخر شريط مجاور للأرض التي ما زالت مغتصبة. صعدنا الطابق الثاني من البناء، فوجدنا جندياً واحداً يحمل بندقية، بينما يُشاهَد العدو «الإسرائيلي» بالعين المجردة في المقلب الآخر من الوطن.
سألت زوجتي الجندي: كيف تستطيع التحكم بأعصابك من دون أن تطلق رصاصك باتجاه مغتصبي الأرض السوريّة؟ أجابها بلهجة الواثق من نفسه: حين تحين الساعة قد لا أكون بحاجة إلى رصاص بندقيّتي، تكفيني إرادتي لكي أساهم في تحرير ما بقي من أرضٍ محتلة من الجولان السوري الغالي.
عدنا إلى دمشق مساء وزوجتي واجمة لا تتكلم، وفي وجومها بعض التساؤل. سألتها: ما رأيك بما رأيت؟ قالت إنّ ما رأيت أعاد إلى ذهني ما شاهدناه في الأفلام عن الحروب العالمية وكمية الدمار الكبير لمدن كانت تعجّ بالحياة، لكن ما أثار استغرابي ودهشتي، بل وتساؤلي، أني لم أرَ في عينَيك دمعة واحدة على مدينة سُوِّيَت بالأرض، بل كانت تلمع في عينيك نظرة الفخر، بينما امتلأت عيناك بالدموع على منزل واحد هو منزل الزعيم سعاده في ضهور الشوير هُدِّم بعضه… كنتُ أتمنى ألّا يكون انحيازك لحزبك، أو لما يمتّ إليه بِصِلة، وتأثرك بما حصل له، أكبر من انحيازك للوطن… وطنك الذي أعرف قيمته عندك!
أُعجبتُ بالفعل بملاحظتها القيّمة، ووقفت كالمتهم أمام قاضٍ يوجّه لي تهماً قاتلة.. لكني قلت لها: ملاحظتك في محلها تماماً، فأنا قد بكيت في ضهور الشوير ليس على منزل الزعيم شبه المهدّم، بل على صراعنا مع قسم من شعبنا يأخذ هذا الطابع الحاقد؛ إذ ما ذنب حجارة حاول سعاده أن يبنيها ليجد له ولعائلته الصغيرة من خلالها منزلاً في وطنه وقريته؟! صراعنا كان يجب أن يأخذ طابعاً فكرياً ثقافياً سياسياً اجتماعياً… بكيت على أن ينحدر الصراع الداخلي بيني وبين أخي وجاري في الوطن إلى هذا الدرك، بينما ما شاهدناه في القنيطرة المحرّرة من دمار هو الصراع الطبيعي بيننا وبين عدوّ الوجود، إمّا نحن أو هو… لذلك كنت سأستغرب جداً لو رأيت أصابع الحقد «الإسرائيلي» على غير ما رأيت في القنيطرة المحررة. إنه صراع وجود لا صراع حدود، ولكن أن يأخذ صراع الأخوة شكلاً من أشكال صراعنا مع العدو هو ما أثّر بي إلى درجة البكاء، وقد تذكّرت كيف أنّ الدولة اللبنانية كانت قد قطعت أشجار عرزال الزعيم بعد إعدامه حتى لا يصبح العرزال محجّاً للقوميين الاجتماعيين، وكيف حذفت تدريس المسرح من كتب الثقافة حتى لا يتمّ الحديث عن سعيد تقيّ الدين، الرفيق القومي الاجتماعي، والذي لا يمكن تجاوزه. هذا ما أبكاني، وما سيبقى يبكيني إذا استمرّ صراع الأخوة على شاكلة صراعنا مع العدو.
العرزال عاد إلى ضهور الشوير.. وسعيد تقيّ الدين عاد إلى كتب المسرح… ولبنان كلّه عاد إلى حضن المقاومة الشريفة ضدّ عدوّ الوجود.. وبيت الزعامة عاد قصراً للثقافة القومية الاجتماعية.