التطبيع: الواقع والمواجهة على المستوى العسكري والأمني*
ـ «التطبيع» شرّع الأبواب أمام كمّ من المخاطر والتهديدات لمصالح الأمة في عناوين متعددة منها المصيري والاستراتيجي ومنها السياسي والاقتصادي ومنها الاجتماعي والثقافي ومنها الأمني والعسكري
ـ سقوط مصطلح دول الطوق أسقط إمكانية قتال «إسرائيل» بالحرب التقليدية وفرض تغييراً في طبيعة المواجهة بأن نقلها إلى الحرب الهجينة التي تشكل المقاومة أحد طرفيها في مواجهة العدو الصهيوني
العميد د. أمين محمد حطيط
بعد 10 أعوام من اندلاع الحريق في جسم الأمة، الحريق الذي أسمي زوراً «ربيعاً عربياً» وأكدت الأحداث ومجريات الأمور انه ربيع لأعداء الأمة وحريق لواقعها ومستقبلها، بعد 10 أعوام من اندلاع هذا الحريق أطلقت أميركا – ترامب رؤية للسلام في الشرق الأوسط أسميت «صفقة القرن»، رمت من خلالها إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل منهجي وعلى مراحل تفضي في النهاية إلى ترسيخ وجود الكيان الصهيوني في قلب المنطقة وجعله كياناً قائداً لها يمارس وظيفته بإشراف أميركا ولمصلحتها ويحوّل مكونات الأمة ودولها وشعوب المنطقة الى أدوات واتباع تخدم المشروع الاستعماري الاحتلالي للمنطقة، المشروع الذي رأى أصحابه انّ تحقيق أهدافه يستوجب إقامة علاقات طبيعية وتحالفية بين «إسرائيل» ودول المنطقة وشعوبها بعد القفز فوق حالة العداء القائمة بينها، لمواجهة عدو مشترك يختلقونه، ووصفوا السعي إلى ذلك بـ «التطبيع».
هذا «التطبيع» الذي استؤنف في صيغته الجديدة في العام 2020 وفتحت له أبوابها دول عربية عدة وأصبح من الناحية الرسمية والشكلية حقيقة قائمة ومكن من إقامة علاقات أكثر من عادية بين تلك الدول والكيان الصهيوني، تطبيع شرّع الأبواب أمام كمّ من المخاطر والتهديد لمصالح الأمة في عناوين متعددة منها المصيري والاستراتيجي ومنها السياسي والاقتصادي ومنها الاجتماعي والثقافي ومنها الأمني والعسكري، حيث تتعدّد أبواب المخاطر التي ينتجها إدخال العدو إلى الدار ثم العمل بسياسته وقيادته وتوجيهاته لتحقيق أهدافه ومصالحه على حساب حقوق وأهداف ومصالح الأمة والمنطقة عامة والشعب الفلسطيني والأقطار العربية المحيطة بفلسطين بشكل خاص.
سنخصص هذه الورقة لمعالجة واقع التطبيع على المستويين الأمني والعسكري، وكيفية مواجهته درءاً لأخطاره وتعطيلاً للأهداف التي رمى إليها أصحابه من خلال العمل به والحضّ عليه. نستبق ذلك بطرح حقيقة معنى المصطلح والتزوير فيه.
1 ـ حقيقة التطبيع ودلالات المصطلح
يبدأ مسار التطبيع المطروح بتزوير واضح للمصطلح، فالتطبيع لغة يعني العودة بالأمور الى طبيعتها، وجعلها أو صياغة روابطها بناء لتلك الطبيعة وعندما يُطرح التطبيع بين العرب و»إسرائيل» فإنّ ذلك يوجب أن يقيم العلاقات بينهم وفقاً لحقيقة تستخلص من كون «إسرائيل» قامت على أرض الغير بعد أن احتلت الأرض وهجرت الشعب وهي تمعن قتلاً وعدواناً على الإنسان والمكان وتتصرف بشكل يرسم صورتها بأنها عدو مؤكد ويكون التطبيع معها يعني التمسك بحالة العداء والتصرف كما يتصرف الأعداء أيّ قطيعة وحرباً خلافاً لما هو مطروح من علاقات ودّ وسلام يُمنح لـ «إسرائيل» مع احتفاظها بما اغتصبت. بينما نجد أنّ التطبيع المطروح يناقض هذه الحقيقة ويتجه إلى سلوك مختلف يوحي وكأنّ «إسرائيل» هي دولة أصيلة في المنطقة قامت بشكل مشروع وتمارس حقاً مشروعاً لا يمسّ حقوق الآخرين، وبالتالي فإنّ مجرد طرح الفكرة ينطوي ضمناً على أمور ثلاثة أولها إدانة تاريخ عربي يمتدّ الى يوم إقامة الكيان المغتصب، فالتطبيع يعني انّ المشهد الطبيعي في المنطقة والذي يجب العودة إليه هو أنّ «إسرائيل» جزء لا يتجزأ من المنطقة، ثانيها انّ العداء الذي يمارسه العرب والمسلمون في وجه «إسرائيل» هو خطأ مرفوض لأنه ينكر حقاً طبيعياً مسلماً به لـ «إسرائيل» بالوجود على أرض فلسطين، والثالث هو الاعتراف لـ «إسرائيل» بحقّ تدّعيه زوراً مع تجاوز حقوق الآخرين التي أهدرت.
لكلّ ذلك نرفض عبارة التطبيع المزوّرة للحقائق، وإذا كان لا بدّ من توصيف للسلوك الذي يجري تحت هذا العنوان المزوّر، فيمكن اختياره من جملة عبارات هي: الصلح ـ الاستسلام ـ الإذعان ـ التعامل مع «إسرائيل» ـ التنازل عن الحق في فلسطين، فهذه هي الاوصاف التي تنطبق كلها أو بعضها على الحالة التي يسمّونها بهتاناً «تطبيعاً»، ونصرّ على رفض هذه العبارة اللئيمة الخبيثة التي تنطوي كما ذكرنا على معاني لا تتناسب مع واقع الحال ولا مع الشعور الوطني والقومي والديني الذي تتمسك به الأمة العربية والإسلامية التي ينبغي ان تحترم نفسها وحقوقها ولا تدين الذات لأنها تمسكت بالحق خاصة أنّ التطبيع الذي تسعى اليه «إسرائيل» ومعها أميركا يفرض إلغاء حالة العداء معها وإبدالها بحالة تحالفية بعد اختلاق عدو مشترك هو إيران، والسعي إلى تشكيل حلف إقليمي تكون «إسرائيل» قائدته لمواجهة العدو المختلق المشترك.
هذه هي الحقيقة فما هو واقع التطبيع على المستوى الأمني والعسكري ومخاطره وكيف يواجه؟
2 ـ واقع التطبيع على المستوى الأمني والعسكري
نعرض هنا لواقع التطبيع ومساراته في موجتيه السابقة والراهنة ومخاطره القائمة ونلتزم بهذا العرض القاعدة بأنّ العسكري يبني موقفه أو نظرته على الحل أو التصور الأسوأ، رغم انه قد يقول قائل إن التطبيع لن يغيّر المشهد في العمق لأن كل ما سيفعله هو إخراج علاقات سرية إلى العلن، ومع احترامنا وتقديرنا لهذا الرأي فإننا نعمل بقواعد التحليل واتخاذ الموقف عسكرياً من الشأن ونقول بالتالي:
أ ـ مسارات الدول التي عقدت صلحاً مع «إسرائيل»
انطلقت مسيرة الصلح مع «إسرائيل» مع زيارة أنور السادات إلى تل أبيب، تلك الزيارة التي أفضت الى اتفاقية كامب دافيد وتسبّبت بإبعاد مصر فعلياً عن الصراع العربي مع «إسرائيل» منذ العام 1982، ثم كانت الخطوة الثانية على الطريق ذاته في أوسلو 1993 حيث أفضى الاتفاق فيها إلى صلح بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو «الإسرائيلي»، بموجبه اعترفت المنظمة بـ «إسرائيل» دون أن تضمن استرجاع حقوق الشعب الفلسطيني، وكان ذاك الصلح بمثابة تنازل عن حق دون مبرّر، تبعه اتفاق وادي عربة عام 1994 الذي أبرم فيه الصلح بين الأردن و»إسرائيل»، ثم تجمّدت مسيرة إقامة العلاقات مع «إسرائيل» عند ذاك الحد، ولم تعقد او تنشأ علاقات علنية بين «إسرائيل» وأيّ من الدول العربية الأخرى رغم وجود تلك العلاقات السرية وبشكل فاعل وعميق بين «إسرائيل» وكلّ من السعودية والإمارات وقطر والبحرين بالإضافة الى كردستان العراق ودولة جنوبي السودان بعد انفصالها عن الدولة الأمّ، واستمرّت تلك العلاقات الظاهرة مع 3 دول عربية والمستترة مع الآخرين كما ذكرت الى أن كان العام 2020 حيث كان «الانفجار الوقح» وكانت الموجة الثانية من موجات الاستسلام امام العدو أعقبت أو نفذت في سياق متطلبات «صفقة القرن» الأميركية. موجة أدّت الى عقد معاهدات صلح واستسلام للعدو، وربطت «إسرائيل» وبشكل متتابع بكلّ من الإمارات العربية والبحرين والمغرب والسودان، ضمن ما أسمته أميركا «اتفاقات ابراهام» او «إبراهيم» وتمّ اختيار الاسم بعناية باعتبار انّ إبراهيم أب إسماعيل جد العرب، وأب اسحق جدّ «بني إسرائيل»، وبالتالي تكون الاتفاقات «صلحاً بين أبناء العمومة». وهذا ما يبرّر استعمال عبارة « تطبيع» كون الصلح يتيح العودة الى علاقات طبيعية بين أبناء العمّ.
ب. انعكاس التطبيع على الواقع الأمني والعسكري حاضراً
في نظرة موضوعية لتداعيات التطبيع على الواقع الأمني والعسكري وانعكاسه على الدول العربية المنخرطة به خاصة وعلى الحالة العربية بشكل عام يمكن الوقوف على مفاعيل معاهدات الصلح تلك على الدول العربية الأطراف بها من الوجهة العسكرية والأمنية وعلى النيل المؤكد من الأمن القومي العربي والأمن الإقليمي أيضاً حيث نسجل ما يلي:
1 ـ خروج الدول المتصالحة مع «إسرائيل» من ميدان الصراع مع العدو، وهنا نلاحظ ما فرضته معاهدات كامب دافيد ووادي عربة على الجيشين المصري والأردني من قيود فرضت ابتعاد الجيش المصري عن سيناء كقوة قتالية والقبول بقوات أجنبية متعددة الجنسيات فيها لترعى واقع الفصل بين «إسرائيل» ومصر التي قيّدت حركتها العسكرية باتجاه سيناء وفرض عليها الحصول على موافقة «إسرائيل» إذا أرادت تعزيز قواتها الرمزية في سيناء. اما على الجبهة الأردنية، فقد تحوّل الجيش الأردني ضمناً الى نوع من حرس حدود تستفيد «إسرائيل» من خدماته صيانة لأمنها ودرءاً لأيّ خطر قد ينبعث على يد فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية.
2 ـ تجميد موقع الدول المطبّعة في اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وقيام ازدواجية النظرة لـ «إسرائيل» في الجامعة العربية من الوجهة العسكرية، ففي حين تراها الدول المتصالحة معها أنها دولة شرعية ذات حقوق تعترف لها بها في الأمن والسيادة وممارسة حق الدفاع المشروع عن النفس، وبالتالي ترفض استعمال أيّ نوع من أنواع القوة خاصة المسلحة ضدّها وتعتبر بالتالي أنّ مقاومتها إرهاب، فإنّ الدول الأخرى التي لا تزال ترفض التطبيع علناً أو سراً لا تزال تنظر إلى «إسرائيل» بأنها عدو يغتصب الأرض في فلسطين ويطرد سكانها الأصليين كما انه يحتلّ أرضاً عربية في لبنان وسورية، وبالتالي تكون مواجهته وتشكيل المقاومة ضدّه أمراً مشروعاً لا بل حقاً وواجباً، ما أنتج انقساماً استراتيجياً في الجسم العربي وتعطيلاً فعلياً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك ولم يعد هناك للعرب عدو مشترك يحشدون طاقاته ضدّه.
3 ـ سقوط مصطلح دول الطوق حول «إسرائيل» بعد أن كسر هذا الطوق بخروج نصف دوله من المعادلة وتحوّلت «إسرائيل» من دولة مطوَّقة محاصرة بأربع جيوش عربية الى دولة تواجه جيشاً تقليدياً واحداً هو العربي السوري والجيش اللبناني الذي يلتزم الاستراتيجية الدفاعية الواقعية التي لا تتيح له الإمكانات المتوفرة القيام بأيّ عمل هجومي ضدّها. لقد أدّى كلّ ذلك إلى سقوط إمكانية قتال «إسرائيل» أو مواجهتها بالحرب التقليدية من الأجيال الثاني والثالث وفرض تغييراً جوهرياً في طبيعة المواجهة العسكرية بأن نقلها الى الجيلين الرابع والخامس واضطرها إلى العمل بالحرب الهجينة التي تشكل المقاومة أحد طرفيها في مواجهة العدو الصهيوني.
4 ـ التنسيق الأمني مع العدو «الإسرائيلي». انّ أخطر ما جاء به صلح البعض وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو «الإسرائيلي» هو التنسيق الأمني في الأرض المحتلة في الضفة الغربية. وهنا نسجل فشل «إسرائيل» في تمتين العلاقات الأمنية والتبادل الاستخباري الأمني مع مصر بشكل خاص، والأردن أيضاً الى حدّ ما، إلا انّ «إسرائيل» نجحت إيما نجاح مع السلطة الفلسطينية التي أنتجها اتفاق أوسلو، نجاح في بناء منظومة تنسيق أمني فاعل لمصلحة «إسرائيل» جعلت من الفلسطيني عيناً وأذناً ويداً تلاحق المقاومة وتتبع حركتها وصولاً الى تعطيل الجزء الأكبر من قدراتها الى حدّ تجميد العمل المقاوم المؤثر في الضفة الغربية.
5 ـ يبقى أن نلفت الى مسألة هامة تتعلق بالتسليح والصناعة العسكرية، حيث نسجل فشل «إسرائيل» في ربط منظومتها الصناعية العسكرية بكلّ من مصر والأردن، الأمر الذي نخشاه في المستقبل مع الدول الأخرى المطبّعة حديثاً خاصة دول الخليج والمغرب والسودان، حيث لا يزال مبكراً الحديث عن حقيقة الإهداءات والعطاءات والتقديمات العسكرية والأمنية التي توفرها لـ «إسرائيل» هذه الدول مع انّ هناك الكثير مما يلوح في الأفق منها وهذا ما نبحثه في الفقرة التالية.
3 ـ خطر التطبيع على المستقبل
الأمني والعسكري العربي والإقليمي
أ ـ إذا كان التطبيع في موجته الأولى أنتج من الأضرار الفعلية والجسيمة ما أحدث الجروح في بنية الأمن القومي العربي انطلاقاً مما إرساه من التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية وخروج مصر والأردن من معادلة الصراع مع العدو الصهيوني، فإنّ الموجة الثانية من التطبيع تحتمل إنتاج مخاطر تتعدّى كثيراً ما سبق وحصل وقد تصل الى تغيير جذري في الخريطة الاستراتيجية والعسكرية لمنطقة غربي آسيا بشكل خاص. وفي حين انّ موجة التطبيع الأولى كانت قد تمّت تحت ذرائع الحاجة الى الاستقرار ووقف الاستنزاف الوطني الذي تسبّبه الحروب مع سعي لاستعادة أرض أو تسوية نزاع مكلف، فإنّ الموجة الثانية خاصة مع دول الخليج مَن صالَحَ منها ومن ينتظر توقيع الصلح، تهدف كما يبدو إلى أبعد من حلّ نزاع غير موجود او إعادة حقوق غير مسلوبة أو مهددة، وتتوخى الانخراط في أحلاف ومواجهات إقليمية بعد ان ابتدعت عدواً بشكل ملفق مزوّر، ولهذا فانّ أكثر ما يحتمل من أخطار هذه الموجة ما يلي:
1 ـ خطر مراجعة العقيدة العسكرية لجيوش الدول المطبّعة. لأنّ فشل التطبيع في موجته الأولى خاصة في مصر من حمل الجيش على مراجعة عقيدته العسكرية التي رغم الصلح مع «إسرائيل» بقي متمسكاً بها معتبراً انّ «إسرائيل» عدو تقليدي ينظم نفسه ويجري تدريباته ويعدّ قواه لمحاربته، فإنّ التطبيع في موجته الثانية كما يبدو سيطيح بهذا الأمر لدى الدول المطبّعة حديثاً ويلزم جيوشها بمراجعة العقيدة العسكرية التي تنشأ عليها ويغير العدو من كونه «إسرائيل» الى جعله إيران، وهذا ما سيؤثر حتماً على الأمن والسلام والاستقرار الإقليمي والقومي العربي، وكذلك على القيمة والقدرة العسكرية لتلك الجيوش التي سيصعب إقناع أفرادها بهذا الأمر.
2 ـ خطر إنشاء الأحلاف العسكرية بقيادة «إسرائيلية» تكون فيها جيوش الدول العربية مسخّرة للعمل وفقاً لخطط العمل «الإسرائيلية» وخدمة لمصالح «إسرائيل» الأمنية والعسكرية ولم يكن مفاجئاً ما أطلقه رئيس أركان العدو كوخافي في مطلع شهر شباط 2021 من انّ «إسرائيل» ستواجه إيران بحلف تنشئه ويشمل كلاً من اليونان وقبرص والأردن والسعودية والإمارات والبحرين وآخرين.
انّ إعادة تشكيل الخريطة العسكرية والاستراتيجية في المنطقة على أساس حلف تقوده «إسرائيل» لحماية مصالحها وتثبيت اغتصابها لفلسطين، وحلف يواجهها هو محور المقاومة العاملة لصيانة الحقوق العربية في فلسطين ومحيطها وصولاً إلى الإقليم، من شأنه أن يعطي «إسرائيل» موقعاً طالما حلمت به وكان تحققه شبه مستحيل، أما الآن فقد يكاد يبدو في متناول يدها وباتت تنظر بطمأنينة الى واقع ترى فيه العربي يقاتل العربي من أجلها.
3 ـ خطر الربط الأمني والعسكري لإسرائيل بالدولة المطبعة خاصة البحرين والامارات والسودان مع ما يعنيه هذا الربط من نتائج ومخاطر. فـ «إسرائيل» التي كانت أسيرة فكرة الضيق والاختناق والحصار وانّ أجواءها لا تتسع لحركة طيرانها أو أنّ الأرض التي تحتلها لا توفر لها حقل تدريب كاف يتسع للمناورات الكبرى، باتت اليوم ومع هذا الربط الأمني مع دول تملك المساحات الشاسعة مطمئنة الى معالجة تلك الصعوبات.
يبقى من الناحية الأمنية فإننا نسجل هنا انّ التطبيع سيفتح المجال الواسع أمام «إسرائيل» للعبث الأمني في الساحة العربية بقسميها المطبّع والممتنع وإفشاء الاضطراب وعدم الاستقرار لإظهار الحاجة للتدخل «الإسرائيلي» بمقابل مادي وسياسي ما يمكّنها من التدخل لتحقيق أمرين الأول تقديم الخدمات الأمنية لأنظمة الدول المطبّعة من أجل قمع شعوبها وظهور الأمن «الإسرائيلي» كطرف يدافع عن تلك الأنظمة في مواجهة الشعوب، والثاني تمكين «إسرائيل» وبشكل يسير سهل من تقييد أيّ حركة دعم شعبي للمقاومة او توفير المكاسب لها. مع التطبيع قد لا تبقى شوارع وأماكن وساحات تلك الدول آمنة للمقاومة.
4 ـ خطر السماح لـ «إسرائيل» بإقامة القواعد العسكرية والمراكز الأمنية بشكل خاص في الخليج تحت ذريعة إنشاء مسرح عمليات دفاعية في مواجهة إيران ما يؤدّي إلى توسيع الفضاء الحيوي الاستراتيجي «الإسرائيلي» بشكل معتبر.
5 ـ أما من ناحية التصنيع العسكري فقد تكون «إسرائيل» وجدت في الدول التي افتتحت علاقات مميّزة معها وبعضها من الدول الغنية، ستجد فيها سوق سلاح يوفر لها الملايين من الدولارات التي تحتاج اليها من جهة، كما سيفتح المجال أمامها للتحكم بتنظيم تلك الجيوش وتسليحها مع ما يستتبع من سيطرة «إسرائيلية» على تلك الجيوش واستعمالها خدمة للمصلحة العسكرية «الإسرائيلية» ضدّ الأمن القومي العربي والإسلامي.
ب ـ في استنتاج سريع نرى أنّ «إسرائيل» إذا نجحت بتحقيق ما تقدّم فإنها ستنتج واقعاً تمسك فيه بالواقع الأمني والعسكري في قسم من الدول العربية التي ستسخر طاقاتها وأرضها وفضاءها ومياهها لخدمة المصالح الأمنية العسكرية «الإسرائيلية»، وستتهيّأ فرص لـ «إسرائيل» لتكون صاحبة يد تقبض على مياه الخليج وجنوبي اليمن خاصة جزيرة سوقطرة كما والبحر الأحمر ومداخله شمال باب المندب وجنوبي قناة السويس وتنتقل «إسرائيل» كما قلنا من واقع كانت هي فيه مطوّقة ومحاصرة الى واقع تتمكن فيه من محاصرة أعدائها وقطع طرق المواصلات عليهم.
4 ـ مواجهة خطر التطبيع
على المستوى الأمني والعسكري
أ ـ إذا دققنا بمخاطر التطبيع على المستوى الأمني والعسكري في الموجة الأولى، فنجد أنّ أخطر ما فيه الى جانب تحييد جيشين عربيين عن القضية العربية، هناك التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية و»إسرائيل»، هذا التنسيق الذي يشكل الوجه الأبشع مما تقدّم، أما التطبيع في موجته الثانية ففيه مخاطر يحتمل أن تصل إلى حدّ إطلاق اليد «الإسرائيلية» في الواقع العربي وإقامة الأحلاف التي تعمل لمصلحة «إسرائيل» وتسقط القضية الفلسطينية وتجبر محور المقاومة على التحوّل من القتال لاستعادة الحقوق الفلسطينية إلى واقع الدفاع عن النفس على شتى الصعد الوجودية والكيانية والسيادية والأمنية. وعليه يجب اعتماد استراتيجية مواجهة تقوم على منع تحقق تلك المخاطر أولاً، وإعداد القوة لمواجهتها إنْ وقعت ثانياً وتكون ترجمة ذلك عبر الإصرار على ما يلي:
1 ـ وقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو وعدم قبوله بأيّ ذريعة أو تبرير.
2 ـ رفض إقامة أيّ نوع من أنواع القواعد العسكرية أو المراكز الأمنية «الإسرائيلية» في الدول العربية.
3 ـ رفض دخول الدول العربية بأيّ أحلاف عسكرية أو تنسيق أمني مع العدو.
4 ـ عدم القبول بأيّ نوع من أنواع التدريب المشترك بين الجيوش العربية و»إسرائيل».
5 ـ رفض ربط الجيوش العربية تسليحياً بـ «إسرائيل» مهما كانت الإغراءات.
أ ـ ولتحقيق هذه الأهداف وبما أنه من الصعب ومن غير المنطق والمصلحة التفكير بالعمل العسكري والأمني ضدّ الدول المطبّعة لمنعها من الانزلاق بعيداً في المسار الخياني لمصلحة العدو، فإننا نرى أنّ العلاج الممكن يقوم على ما يلي:
1 ـ تعبئة الشعوب والتعويل عليها لوضعها في مواجهة حكامها للضغط عليها لكبح جماح هذه المسيرة المعاكسة للحق العربي، ولنا في ما حصل في مصر منذ 40 عاماً تقريباً المثل الناجح الصارخ حيث انّ الشعب خنق سعي السلطة في اندفاعتها نحو «إسرائيل»، وانّ الجيش أظهر صموداً رائعاً بالتمسك بعقيدته القتالية وصدّ أبوابه أمام المدّ «الإسرائيلي». وفي هذا السياق ينبغي الحذر من اتخاذ أيّ موقف سلبي من شعوب الدول المطبّعة، ويجب التمييز دائماً بين النظام الذي خان فصالح واستسلم وبين الشعب الذي قهر وعجز مؤقتاً عن منع ذلك.
2 ـ التعبئة السياسية والإعلامية لممارسة الضغوط الممكنة للحؤول دون تشكل أحلاف عسكرية إقليمية تقودها «إسرائيل» في مواجهة محور المقاومة عامة وإيران خاصة.
3 ـ العمل بالطرق المناسبة لمنع التمدّد العسكري والأمني «الإسرائيلي» في الدول العربية المطبّعة، وهنا يكون دور الشعب والإعلام المحلي كما ودور النخب والإعلام العربي الساعي لتكوين رأي عام ضدّ هذا التمدّد مهما كانت الظروف.
4 ـ الحذر الشعبي من الوقوع في فخ وكالات العدو الاستخبارية وهو أمر ليس بالهيّن ومع ذلك ينبغي الحذر واليقظة إلى الحدّ الأقصى. وهنا ينبغي الالتفات لتحصين الذات العربية لمنع العدو من تجنيدها خدمة لأهدافه.
5 ـ تنظيم الذات المقاومة الممثلة بمحور المقاومة وتعزيز معادلات الردع الاستراتيجي التي أرساها لإرسال رسالة واضحة للآخرين بأنهم أعجز من أن ينالوا من هذا المحور وأوهن من أن يحققوا أغراضهم.
6 ـ اعتبار كلّ جهة أو مكان أو طرف يكون فيه وجود أو يد أو نفوذ «إسرائيلي» هو هدف معاد وأنه سيعامَل على هذا الأساس واتخاذ موقف علني صريح بذلك من المقاومة وجمهورها.
7 ـ مراقبة ما يُعقد مع العدو من اتفاقات معلنة أو يحرص على سريّتها وتكوين محكمة شعبية عربية لفضح كلّ ما ينزلق اليه المطبّعون من معاهدات او اتفاقيات مع العدو.
*ورقة قدمت الى المؤتمر العربي العام المنعقد في الفضاء الافتراضي بتاريخ 20/2/2021.تحت عنوان « متحدون ضد التطبيع «