أفلام وأخبار سينمائيّة غرباً وشرقاً

رغم السحر الكامن والظاهر في فيلم «ملكة الصحراء» الذي تؤدي فيه نيكول كيدمان ببراعة وسحر دور الرحالة والمستكشفة الإنكليزية، جيرترود بيل، التي تتمتع بالجمال والثقة والشموخ، وما يتضمنه الفيلم من مناظر طبيعية شديدة الجاذبية تكاد تداني ما يتمتع به الفيلم الكلاسيكي المشهور «لورنس العرب»، إلاّ أن عشاق سينما المخرج الألماني المتمرد فيرنر هرتزوغ سيشعرون بنوع من خيبة الأمل، بل وربما بالإحباط أيضاً. فالمخرج هرتزوغ في فيلم «ملكة الصحراء» يدنو كثيراً من تحقيق فيلم تقليدي من تلك الأفلام التي ترحب هوليوود بإنفاق الكثير من المال على إنتاجها. فيلم يتمتع بنجمة من الدرجة الأولى هي كيدمان، ونجم يقال إنه من الكبار الآن واسمه جيمس فرانكو إلاّ أنه يبتعد عما كان متوقعاً منه وظل دوماً في باب التوقعات، مذ بدأ الإخراج السينمائي في سبعينات القرن الفائت. يبتعد هرتزوغ أيضاً عن المزاج السينمائي الذي ميز أفلامه القديمة التي جعلت منه مخرجاً متميزاً يخوض المغامرات السينمائية المستحيلة، ويرفع سفينة حقيقية فوق جبال الأنديز في البيرو، ويريد إحياء «أوبرا» في الأمازون بواسطة بطله المتطرف كلاوس كينسكي في «فيتزكارالدو»، و يخوض مع كينسكي أيضاً، مغامرة البحث عن مدينة الذهب «ألدورادو» بعد أن يتمرد على قائده، ويسيطر على بعثة المستكشفين الاستعماريين في غابات الأمازون، ليصل إلى حالـة الجنون المطلق في «أغيرا غضب الرب». أو يصوّر كلاوس كينسكي مجدداً في دور تاجر العبيد الشرس القادم من ماض إجرامي في البرازيل إلى أفريقيا الغربية، في مهمة مستحيلة ستكثف نزعة الشر الكامنة فيه في «كوبرا فيردي».

أخرج هرتزوغ معظم أفلامه خارج ألمانيا في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، والآن جاء دور العالم العربي، تحديداً الصحراء العربية، بعدما أتيحت له الفرصة لإخراج فيلمه الهوليوودي الكبير «ملكة الصحراء» آملا، بالطبع، في أن يجسد على الشاشة شخصية تضارع شخصية لورنس في رومانسيتها ووقوعها السحري في حب الصحراء العربية والبدو، وتلك النزعة المتدفقة التي لا يوقفها شيء، نحو المغامرة والاكتشاف والدروب المستحيلة في مناطق لم يسبق لأيّ شخص من العالم الغربي المرور بها بعد.

جيرترود 1868 /1926 من أولى الفتيات اللاتي درسن في أوكسفورد، لكنها لم تجنح إلى اختيار المهنة السهلة، بل أرادت أن تخرج باكراً إلى العالم، مبتعدة عن البيئة الإنكليزية الفيكتورية المنغلقة. يدبّر لها والدها الذي يتمتع بالنفوذ السياسي الالتحاق بالبعثة الدبلوماسية في طهران، في عزّ أمجاد الإمبراطورية «التي لا تغرب عنها الشمس»، أي زمن كانت القنصليات البريطانية في العالم الخارجي قصوراً فارهة مليئة بما يشبه أعاجيب ألف ليلة وليلة. ومن اللحظة الأولى تصبح جيرترود هدفاً للرجال، أو بالأحرى محور إغواء للوقوع في الحب، ويقع في غرامها سكرتير في السفارة يدعى هنري غادوغان يؤدي الدور على نحو نمطي الممثل الأميركي جيمس فرانكو في واحد من أسوأ اختيارات هرتزوغ هنا . وتدريجياً تجد نفسها تبادله الحب، من دون أن يرى المشاهد في أي وقت يحدث ذلك، ليس خلال هذه العلاقة فحسب بل طوال الفيلم، أي رؤية مشهد من مشاهد تبادل الحب الصريحة التي أصبحت مألوفة في سينما اليوم، بل ولا حتى قبلة حميمة بين العاشقين، فهرتزوغ يبدو حريصاً على إحاطة فيلمه بأجواء من التحفظ التي ربما كانت تناسب العصر الذي تدور فيه الحوادث، أي قبل عقود من اندلاع «الثورة الجنسية»، وربما لرغبته في الحفاظ على الطابع الرومانسي البريء لفيلمه.

الاتفاق على الزواج بين الحبيبين لا يتحقق، فوالد جيرترود يرفض بشدة الموافقة على ارتباط ابنته بهذا الشخص الذي يجد أن مستقبله «غامض»، والموت -أي موت الحبيب المفاجئ- يتكفل بالباقي، أي بضمان الفراق الأبدي بينهما.

في المقابل، تقع جيرترود التي سترحل إلى المشرق العربي زمن الصراع بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية العثمانية، التي كانت تشهد أيامها الأخيرة قبيل الحرب العالمية الأولى، مجدداً في حب رجل آخر، متزوج هذه المرة، هو الملحق العسكري البريطاني في عمّان، لكن قصة حبهما لن تكتمل كذلك إذ يفضل الضابط البريطاني الاستجابة لنداء الواجب على نداء القلب، لتواصل جيرترود مسيرتها مع مجموعة من رجال البدو العرب المخلصين. ثم تلتقي مرتين أو أكثر شيوخاً عرباً وتقبل ضيافتهم، ولو تحت تهديد السلاح في البداية، وفي كل مرة تتمكن بقوة شخصيتها وثقتها في نفسها وجمالها من هزم أيّ أطماع ذكورية، أو حتى مجرّد القبول بدور المرأة الضعيفة مهيضة الجناح التي تحتاج إلى الحماية. تلتقي جيرترود ضابط الاستخبارات البريطانية المشهور تي. إتش. لورنس أكثر من مرة في الفيلم، لكن تجسيد شخصية لورنس هنا يبدو هزلياً تماماً، أي على العكس من الصورة التي يعرفها جمهور السينما في بيتر أوتول في تحفة ديفيد لين الخالدة «لورنس العرب» قبل أكثر من خمسين عاماً.

في سياق مغاير يبدو أن هرتزوغ يتعمّد هنا إطاحة صورة لورنس كرجل يتمتع بالقوة والذكاء والحلم، جاعلاً منه شخصية واقعية تبدي من الهزل أكثر مما تبدي من التحفظ والحذر، وفي اللقاء الثاني معها يقول لها معابثا «جيرترود، لا تتزوجيني من فضلك». كأنه يردّ على توقعات المشاهدين الذين سبقت لهم رؤية رجلين يعرضان عليها الزواج. كما يبدو لورنس في الفيلم متسقاً تماماً مع رغبة رؤسائه، موجهاً النصح إلى تشرشل في زيارته القاهرة التي تتجسد أيضاً في مشهد «هزلي» وهو يحاول امتطاء ظهر جمل لالتقاط صورة تذكارية على خلفية الأهرامات وأبي الهول، ويسقط متعثراً من فوق ظهر الجمل… مشاهد صوّرت مثل جميع مشاهد الفيلم في ديكورات رديئة التنفيذ في صحراء المغرب.

الفكرة الأساسية في فيلم «ملكة الصحراء» هي تجسيد قوة تلك المرأة الأسطورية التي فاقت الرجال، ما أدّى إلى تفريغ الفيلم من أيّ فرصة للاهتمام بالإطار التاريخي السياسي الذي تدور فيه الحوادث. كما بدا أن ولع جيرترود بالبدو العرب لا ينعكس، بقدر مماثل، في الإيمان بحق العرب في الحصول على استقلالهم بعد الحرب الأولى، بل إنها تجيب عن سؤال حول سبب حبها للبدو بالقول إن أكثر ما يشدّها إليهم «حريتهم»، في إشارة إلى حياتهم المفتوحة في الصحراء الواسعة، لكن هل هم أحرار فعلا؟

مشكلة فيلم «ملكة الصحراء» الأساسية في السيناريو الذي يبدو كأنه مكتوب على شكل حلقات تلفزيونية، أي قصص مختلفة تفتقد الترابط الدرامي في ما بينها، كما يفتقد الفيلم عامة التصاعد المطلوب في أيّ حبكة درامية يمكنها أن تجذب المشاهدين، خاصة أننا حيال فيلم «تقليدي» في بنائه وموضوعه وشخوصه، وليس من الأفلام الطليعية المغامرة التي عرف بها هرتزوغ ماضياً.

نيكول كيدمان تؤدي دوراً ممتازاً من كل النواحي، من خلال دور جيرترود، متمكنة من الحوار كسيّدة أرستقراطية إنكليزية كانت ميريل ستريب لتقوم بالدور ببراعة لو كانت أصغر بنحو ثلاثين سنة . كذلك نطقها العبارات العربية في الفيلم، وتبدو بلا شك أصغر من سنها الحقيقية 47 سنة ، فهي تتمتع في هذا الفيلم بوجه جذاب وعينين ساحرتين مثلما عرفت دوماً. ويبرع مدير التصوير النمساوي بيتر زيتلنغر الذي يعتمد عليه هرتزوغ في تصوير أفلامه منذ «موت لخمسة أصوات» 1995 في تصوير مشاهد الصحراء، بأقرب محاكاة لأسلوب تصوير فريدي يونغ في «لورنس العرب» بتكويناته الجمالية المميزة، وأسلوبه المتناغم مع طبيعة كل مشهد، متنقلاً ببراعة ودقة من النهار إلى الليل، ومن الداخل إلى الخارج، مع مزيج من الموسيقى العربية والكلاسيكية التي كتبها كلاوس بادلت.

جيل جديد يؤسّس لانقلاب سينمائيّ في الجزائر

أثار فيلم «الوهراني» للمخرج الجزائري إلياس سالم جدًلاً جديداً في الساحة الفنية والثقافية الجزائرية، بسبب جرأته في طرح ما رآه «انحرافات الثورة والثوار بعد الاستقلال»، ما أثار استياء جمهور عريض من الجزائريين، وممن تعرف بـ«الأسرة الثورية» تنظيمات مدنية لقدماء المحاربين ، إذ نددوا وتجمهروا منذ أسابيع أمام قاعة العرض في مدينة وهران، معتبرين الفيلم محاولة للمساس بسمعة ثورة التحرير.

يرى متابعون للشأن الفني في الجزائر أن فيلم «الوهراني» يشكل تحوّلاً جديداً في مسار الإنتاج السينمائي الموثق لثورة التحرير، فإذا كانت الأعمال السابقة ركزت على عرض الصورة المبهرة للثورة التحريرية وممارسات الاستعمار الفرنسي، فإن الفيلم الجديد يفتح نافذة على نقد الذات والبحث عن الحقيقة في قدسية يرى بعض الفنانين والمثقفين الجزائريين أنه ينبغي النظر فيها، طالما أن الثورة قام بها إنسان والإنسان قد يخطئ وقد يصيب.

يعتبر أحمد راشدي مخرج فيلم «مصطفى بن بولعيد» 2010 واحداً من المتمسكين بتوثيق الثورة سينمائياً وتقديمها إلى العالم كواحدة من الثورات الإنسانية الكبيرة في العصر الحديث، على نحو يوازي ما قدمه الجزائريون من تضحيات جسام وعبقرية في الصمود لدحر الاستعمار. ويشدد على أن الجزائر المستقلة لم تقدم إلى حد الآن ما يعكس صورة ثورة التحرير، وأن الوقت لم يحن بعد للخوض في نقدها ما دام زخمها ورسالتها لم يصلا إلى العالم.

الباحث السينمائي عدة شنتوف كان أصدر كتاب «السينما الجزائرية وحرب التحرير»، وضمّنه الأعمال الفنية والسينمائية التي تناولت حرب التحرير الجزائرية، وناقش فيه دور الصورة في التعريف بالثورة، منتهياً إلى خلاصة مفادها أن الأعمال المنجزة تبقى بعيدة وغير كافية عمّا قدمه الجزائريون في سبيل حريتهم وعما مارسه الاستعمار في حقهم، مقارنة بما يوثق ويروج له لدى بعض الأمم والشعوب التي لا تقارن تضحياتها بتضحيات الجزائريين. وضمّن الباحث كتابه ثلاثة فصول، الأول حول مكانة الأفلام الثورية في السينما الجزائرية وتطوّرها عبر الزمن بدءاً من السنوات الأولى من استرجاع الاستقلال إلى فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات ومطلع الألفية الجديدة. والفصل الثاني حول الأفلام التي تطرقت إلى فترة ما قبل اندلاع ثورة التحرير الجزائرية والتي يقدر عددها بـ15 فيلماً أهمها «الليل يخاف من الشمس» و«الخارجون على القانون» و«وقائع سنوات الجمر». أما الفصل الثالث فيعرض 21 فيلماً صورت ساحة المعركة بينها «ريح الأوراس» و«معركة الجزائر» و«الطريق»وغيرها.

يرى النقاد أن السينما الجزائرية الثورية استطاعت أن تنجز أعمالاً كبيرة تاريخياً وفنياً، مثل فيلم «معركة الجزائر» سنة 1966 للمخرج الإيطالي جيلو بونتي كورفو، الذي فاز عنه بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين وظل ممنوعاً من العرض في فرنسا حتى 2004 وأثار جدالاً بعد احتلال أميركا للعراق عام 2003 واعتبر مرجعية للمؤسسات الرسمية في واشنطن للقضاء على المقاومة المحلية. بالإضافة إلى فيلم «الأفيون والعصا» لأحمد راشدي المقتبس عن رواية للكاتب مولود معمري، وفيلم «وقائع سنوات الجمر» للمخرج محمد لخضر حامينا، الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1976 كأول وآخر تتويج للسينما العربية في هذا المهرجان العالمي.

في المقابل، ومع ظهور جيل جديد من المخرجين السينمائيين، مثل إلياس سالم ورشيد بوشارب، بدأت ملامح «انقلاب» على السينما الثورية لناحية المضمون النقدي للثورة، ولناحية هيمنة الموضوع على السياسة السينمائية للبلاد، مشدداً على ضرورة تقديم قراءة جديدة للتاريخ وفسح المجال أمام مواضيع مغايرة تهم المجتمع الجزائري في ظل التطورات المتلاحقة، خاصة بالنسبة إلى نمو الفكر المتطرف والعشرية الحمراء ونمو التناقضات الاجتماعية.

يرى المخرج مسعود العايب أن السينما الثورية عادت بقوة في السنوات الأخيرة بسبب الأهمية القصوى التي توليها سلطات البلاد السياسية للموضوع، وبعيداً عن أساليب توزيع هذه الأعمال على مؤسسات الإنتاج، فإن إرادة تقديم التاريخ تتمّ وفق رؤية معينة، بدليل أن المسائل المهمة والأسئلة المطروحة في عدة قضايا تبقى مغيبة، كما هي الحال بالنسبة إلى اغتيال عبان رمضان وعميروش وكريم بلقاسم وغيرهم، وهذا يظلم التاريخ ولا ينصف الحقيقة». فالدولة رصدت مبالغ ضخمة للأعمال الثورية في إطار احتفالية ستينية الثورة، وتظاهرات أخرى، إلاّ أنها تمتنع عن دعم الأعمال التي تخوض في مسائل أخرى تطرح نفسها بإلحاح مثل تنامي التناقضات الاجتماعية، وبروز مشاريع التطرف الديني والإرهاب، وانتشار المخدرات والهجرة غير الشرعية، وحتى الفساد المالي والسياسي وغيرها من القضايا».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى