العقل السياسيّ البارد إذ ترتفع حرارته
سعادة مصطفى أرشيد _
يفترض علم السياسة، أنّ العقل السياسيّ بارد في الغالب، وبعيد عن الانفعال، وعن اتخاذ القرارات غير المدروسة، وإنْ أبدى في ظاهره الغضب في بعض الأحيان وذلك خدمة للسياسة، لكن الوضع في بعض الأيام الماضية، يبدو خارجاً عن المألوف السياسي في المثلث الذي يضمّ الأردن و(إسرائيل) والسلطة الفلسطينية، حيث نرى أنّ الغضب هو سيّد الموقف، وأنّ أصحاب القرار يبدون من التوتر والتسرّع والعجلة وردود الفعل، مقادير تتجاوز حسابات السياسة.
سبق للأردن أن وقّع مع (إسرائيل) اتفاقية سلام (وادي عربة)، وذلك عام 1994، والتي تنص مادتها التاسعة في بندها الثاني، على أنّ (إسرائيل) تحترم الدور الحالي للأردن في الأماكن المقدّسة الإسلامية، وأنّ (إسرائيل) سوف تعطي أولوية للدور الأردني في مفاوضات الوضع النهائي، وهذا كلام مجامل ومغرق بالعمومية ويبتعد عن التعيين والتحديد الدقيق، الذي هو شرط من شروط الوضوح، فـ (إسرائيل) هنا تتحدث عن احترام دور الأردن لا الاعتراف به، والاحترام مسألة نسبية يحدّدها المحترِم (بكسر الراء) ولا يأتي من باب الإلزام، وهو في عمومه دور إداريّ لا سياديّ .
في عمّان تقرّرت زيارة للقدس يقوم بها ولي العهد الأمير حسين بن عبد الله في الأسبوع الماضي، لقضاء ليلة الإسراء والمعراج في رحاب المسجد الأقصى، وذلك في وضع صحي حرج، تسبّبت به جائحة كورونا، ويستدعي التباعد الاجتماعي، ويحظر المكوث في تجمعات حاشدة، رغم ما في ذلك من مغامرة وخطر على صحة ولي العهد، ومن الأكيد أنّ لتلك الزيارة لو تمت دوافع إيمانية، ولكن الإيمان قد حمل في ثناياه أهدافاً ورسائل سياسية، منها ما يتعلق بدور ولي العهد المستقبلي، ومنها ما يتعلق بتأكيد الدور الأردني في رعاية المكان المقدس، ومنها ما يصل مداه بعيداً إلى الرياض وأبي ظبي وأنقرة، وهي عواصم تطمع وتعمل بنشاط للحصول على دور لها في القدس بالطبع على حساب دور الأردن .
لم تكن تلك الخطوة مبنيّة على دراسة دقيقة للاحتمالات التي كانت ستؤدي إلى عكس النتائج المرجوة من الزيارة، ولعلّ ما عرقلها وحال دونها أنّ ولي العهد والأردن من أصحاب الحظ. فالأردن قد شاب سياساته نحو القدس كثير من الوهن في السنين الماضية، ودور الأوقاف تدور حوله شبهات وأقاويل، ثم أن قدس اليوم قد اختلفت عن قدس الأمس القريب، ومشايخ القدس – أو بعضهم – أصبحت طريقهم سالكة نحو اسطنبول من دون المرور في عمّان، وارتضى بعضهم أن يتحوّل أداة للسياسة التركية لا في القدس فحسب، وإنما لتطال فتاويه دمشق، فيما أموال الرياض وأبو ظبي تتدفق عبر البنوك «الإسرائيلية» من دون اعتراض، واستثماراتهم الماليّة حول وادي سلكون مقدسي أصبحت قيد التنفيذ، واتفاق أبراهام، سيوصل الحجيج من القدس وإليها، من دون اضطرارهم للمرور من عمّان، فوق ذلك كله، فإنّ جمهور المصلين في المسجد الأقصى وباحاته الواسعة، أصبح خارجاً عن السيطرة، ولديه كثير من التوتر والنزق، سواء بسبب ما يستشعره من إهمال أدى إلى تسرّب العقارات المقدسية لجمعيّات استيطانية دينية متطرفة، أو بسبب من يحرّكهم من أصحاب أجندات وارتباطات، أو بسبب قوى وأحزاب عقائدية، (حزب التحرير مثلاً)، الأمر الذي دعاهم قبل زمن قريب، للتهجم وطرد وزراء وشخصيات من السلطة الفلسطينية زارت المسجد الأقصى، وحصلت أمور مشابهة طالت مصلين من الإمارات، ووزير الخارجية المصريّ، فماذا لو حصل مثل ذلك مع ولي العهد الأردني، سواء اضطر حرسه للتدخل لحمايته أو الانسحاب أو الاستنجاد بالأمن «الإسرائيلي»، لتحوّلت عندئذ الزيارة الإيمانية – السياسية إلى كارثة معنوية – سياسية لشخص ولي العهد ولتشمل دور الأردن.
في تل أبيب ازداد الشعور عند بن يامين نتنياهو، مترافقاً بالأداء، بأن أصبح يرى نفسه ملكاً من ملوك (بني إسرائيل) التوراتيين، لا رئيس وزراء في (دولة) ذات نظام برلماني، وهو يحمل في داخله بغضاً شديداً للأردن، دولة وملكاً، وصهيونيّته المتجددة (الجابوتنسكية) ترى في الأردن كياناً مؤقتاً، غير معترفة بمفاعيل اتفاقية «وادي عربة» التي وقعها أحد أسلافه، (إسحاق رابين) مع الملك الراحل الحسين بن طلال، والتي كان الهدف من توقيعها ضمان الدولة الأردنيّة كوطن نهائي لمواطنيه، وترى أن أرض الأردن ليست إلا امتداداً طبيعياً وتاريخياً لأرض (إسرائيل) التوراتيّة، وفي الخرائط الانجليزية التي اعتمدها وعد بلفور وصك الانتداب الانجليزي ما يدعم ذلك، أكثر مما تقدّم، فإنّ نتنياهو دائم الاستخفاف بعمّان، إذ يرى أنها قصيرة الجناح، تحتاج إلى ما يجود به من ماء، وما يبيعه من غاز، وقد تآكل دورها الإقليمي خاصة بعد توقيعه اتفاقات السلام والتطبيع مع الإمارات والبحرين، ولقائه بولي العهد السعودي في مدينة نيوم، لذلك على الأردن أن يتقبّل صفعاته من دون أن يردّ، وهذا الاستخفاف هو الذي دعاه لاستفزاز ولي العهد الأردني، وعرقل دخوله عبر الجسر في طريقه للقدس .
كان الردّ الأردني قوياً وسريعاً، قاطعاً السماء على رحلة نتنياهو للإمارات التي طالما سعى إليها، وقد جاء وقتها الأنسب، لتكون إضافة إلى مفاعيلها المالية والأمنية والسياسية، ذخراً انتخابياً، والانتخابات قد باتت على الأبواب، لعلّ الخطوة الأردنيّة قد فاقت توقعاته وضاعفت من غضبه، فاتخذ قراره بمنع مرور الطائرات المقبلة عبر الأجواء الأردنيّة من الطيران فوق سماء فلسطين المحتلة، ومن دون الرجوع للمجلس الوزاري المصغر أو شركائه في الحكومة وزيري الدفاع والخارجية، لم يستطع تمرير قراره الغاضب واستنزف رصيده، وأشار ذلك إلى فقدانه سحره السياسي، وموازينه الحسابية التي أبقته في قمة الموقع السياسي لفترة تفوق فترة بقاء أيّ شخصية أخرى في عمر دولته القصير، هذا ما لم تستطع مكالمته الهاتفية مع ولي عهد الإمارات ومعها المليارات العشرة التي سيستثمرها الإماراتيون أن تساوي مفاعيل الزيارة انتخابياً، وهو ما دعا الحكومة (الإسرائيليّة) لاسترضاء عمّان بالسماح لبضع مئات من العمال الأردنيين بالعمل في إيلات، فيما نرى أميراً عربياً في الخليج، لا يقف إلى جانب الأمير الأردني وإنما يدعم نتنياهو.
. رام الله بدورها، تشتعل بها الخلافات داخل حركة فتح (الحزب الحاكم)، وعدد القوائم الغاضبة التي تعلن عن قرارها بالترشح من داخل بيت فتح يزداد، وهذه القوائم – إن جرت الانتخابات – ستغرف أصواتها من الرصيد الانتخابي ذاته لقائمة فتح الرئيسية، أمام هذه الصورة المرتبكة، تزيد قيادة فتح من إرباكها بعدم إبداء رصانة في التعامل مع هذه الظاهرة، فمنذ عشرة أيام، هاجم عضو في لجنة فتح المركزية عبر إذاعة محلية، التيار الإصلاحي وقائده، وذكر في حديثه أنّ التيار الإصلاحي لا يحق له الترشح، وأنّ حديثاً قد جرى مع لجنة الانتخابات المركزية، لمنع التيار الإصلاحي من التقدّم للانتخابات بقائمته، ومنذ أيام، أعلن عضو اللجنة المركزية ناصر القدوة، وهو من قيادات الصف الأول عن نيته للترشح وتشكيل قائمة منفصلة عن القائمة الرسمية، فتمّ طرده من عضوية التنظيم، وتمّ وقف تمويل مؤسسة ياسر عرفات التي يرأسها، انتقاماً من شخصه، وأخذت منه سيارته، وسحبت الحراسات التي كانت ترافقه، فيما أعلن عضو آخر في اللجنة المركزية عن اكتشافه في هذا التوقيت، أنّ القدوة سارق وفاسد وأنه سيُحال إلى لجنة مكافحة الفساد للتحقيق معه، ووو…، ولم تتمّ دعوة الشخصيات المستقلة التي أيدت القدوة في سعيه لتشكيل قائمته للقاهرة، للمشاركة في الحوارات الدائرة هناك مع أنها شاركت في جميع الحوارات السابقة، ولا نعرف من الذين لن يكون من حقهم الترشح إذ يبدو أنّ معايير الترشيح الواردة في القانون ليست الوحيدة الملزمة، فأية انتخابات هذه، وأية ديمقراطية، واية مخاطر قد نواجهها كمواطنين عزل من المسؤولية والنفوذ. هذا وكان قائد آخر في فتح يردّد في مقابلاته وإطلالاته الإعلامية الكثيرة عبارة: معلش إحنا ديمقراطيتنا في فتح سكر زيادة!
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في جنين – فلسطين المحتلة