هل يكون لقاء بعبدا الأخير بداية فرط المنظومة السياسية والإطاحة بها؟
} علي بدر الدين
لم يكن متوقعاً من اللقاء الثنائي الثامن عشر في قصر بعبدا، أن يزهر أو يثمر تفاهمات، أو يفكك عقداً، أو يمحو شروطاً، أو يقدّم تنازلات، لنزع فتائل التفجير من طريق تأليف الحكومة. «انفجار» لقاء الأمس، قد يكون الحلقة الأخيرة من مسلسل «إلى اللقاء»، لم يفاجئ أحداً، لأنّ المؤشرات والمعطيات والرسائل التي سبقته وباح بها أكثر من فريق سياسي معنياً أو محايداً، كانت كافية أصلاً لعدم حصول هذا اللقاء أو انتظار غيره، لأنها المحطة الأخيرة في رحلة التشاور بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف حول تأليف الحكومة الذي، لا يزال في مرحلة المراوحة، والجمود بل التراجع. ويبدو أنه لم يحن أوان نضج التأليف وقطاف الحكومة، لأنّ شدّ الحبال الداخلي لا يزال مستمراً حول شروط القوى السياسية، أقله بالشكل من خلال الرجلين وما يمثلان سياسياً وطائفياً. كما أنّ تعارض المصالح الدولية والإقليمية حول كثير من الملفات لا يزال طاغياً، وهذا يعني، أنّ العودة إلى اللقاءات لم تكن سوى مناورة سياسية بامتياز وليست المدخل إلى التوافق والتأليف، ولا يعدو كونها، محاولات عبثية، وغير مقنعة، الهدف منها، الإيحاء بأنّ بعض من في الداخل يملك قرار التأليف، وهذا غير صحيح، ويكذبه، الفشل والعجز والهروب من المسؤولية باللجوء إلى مسرحيات، وسجالات وتجاذبات واتهامات وتقاذف تحميل المسؤوليات، مع أنّ الجميع شركاء في كلّ ما يحصل، سلباً أو إيجاباً معدوماً، خاصة أنّ اللبنانيين بحكم التجارب المرة والقاسية التي تعرّضوا لها، وأغرقتهم بالحروب والفتن والصراعات والفقر والجوع، يدركون أنّ من يملك القرار في لبنان، باستثناء الاستحقاقات الانتخابية والدستورية وتأليف الحكومة واحد منها، إضافة إلى انتخابات الرئاسة الأولى، لا يتعدّى عددهم أصابع اليدين، منهم الوارث، ومنهم المستجدّ، وما تبقى من وزراء ونواب ومواقع سلطوية ومالية واقتصادية ونقدية، هي مجرد دمى تعمل تحت إمرتهم، لا دور لها سوى الطاعة وتنفيذ الأوامر وحمل الرسائل، وتحويلها إلى أبواق إعلامية وسياسية وخوض «المعارك» بالتكليف والنيابة والوكالة.
رموز المنظومة السياسية الحاكمة على قلة عددهم، هم شركاء في كلّ شيء، في السراء والضراء، وفي تقاسم الغنائم والحصص، ووضع اليد والسيطرة على كلّ مقدرات الدولة ومؤسساتها وأموالها، ويتشاركون أيضاً في الحكومات، وعلى طاولات الحوار، وفي المحاور والتحالفات الانتخابية، وفي الفساد والمحاصصة والسمسرات والصفقات والتعيينات والنهب، حين أنهم يدّعون زوراً وبهتاناً أنهم يدافعون عن حقوق الطائفة أو المذهب أو المنطقة، وأنهم حرصاء على وحدة لبنان وشعبه، وهم مارسوا ويمارسون أبشع السلوك ضدهما، ويتفاخرون بالتوافق والتشارك، على الحال الكارثية والمأساوية، التي أوقعوا الشعب فيها، لم تشهد أية دولة قريبة او بعيدة مثلها وببشاعتها وتداعياتها.
«الكيمياء» بين مكونات رموز المنظومة السياسية الحاكمة تتوافق فقط على فعل الشر، في حين أن لا مفعول لها في ميادين الخير والمعالجات وولوج الحلول والإنقاذ. إنه سرّ من الأسرار المستعصية التي لا يسمح لأحد البوح به وفك ألغازه، حتى لا يفرط عقد الشراكة المعمّد بالدم والظلم والاستبداد والفساد والتحاصص والسطو على أموال الدولة والشعب والمؤسسات.
إنّ الاقتراب من خواص هذه المنظومة ومصالحها وأسرارها ممنوع، بل يشكل انتهاكاً لمقدساتها ومحرّماتها وخصوصياتها، لأن لها وحدها الحق والحرية، التصرف بحقوق الشعب ومصادرتها والسطو عليها، ولها الحقّ في إفراغ خزينة الدولة، والتواطؤ مع حيتان المال والمصارف ومصرف لبنان، في إفراغ المصارف من أموال المودعين اللبنانيين المقيمين والمغتربين، ولها وحدها الحق في شلّ مؤسسات الدولة، وتحويلها إلى إقطاعات خاصة بها، ولها الحق في ابتداع صناديق سوداء بعناوين اقتصادية وإنمائية واجتماعية، وتمويلها من خزينة الدولة والشعب، وهي من يديرها وينتفع منها والأزلام والمحاسيب.
هل يُعقل أن لا أحد من شركاء هذه المنظومة قادر على التمرّد والخروج منها، وكشف زيفها وفضائحها وأسرارها، رغم الإيحاءات والإشارات والإهانات والخلافات المستحكمة بالظاهر، والتصويب على بعضهم البعض بالإساءات وتقاذف المسؤوليات والتخوين.
إنها فعلاً من العجائب التي لا يمكن فهم ألغازها. ألا يوجد بين هذه المنظومة رجل واحد شجاع ووطني، وصاحب ضمير وأخلاق، يخرج على الملأ، من رحم السواد والفساد والجوع والفقر والانهيار، شاهراً سيف الحقيقة وصوتها لينطق بالحق ويكشف عما حصل ويحصل، عله يسهم في فضح المستور، ويحدث صدمة إيجابية وفرقاً مطلوباً، وثغرة في جدار الطبقة السياسية الحاكمة، علها تتسع وينهار جدار الفساد والمحاصصة؟
لهذه المنظومة المتحكمة المتسلطة والمستبدة، التي يلعنها الشعب ليل نهار، ويهينها، ويصرف النذور لسقوطها، لكن الأمر بالنسبة لها كأنّ السماء تمطر. لا همّ عندها سوى مصالحها، ولا رادع يردعها، ومصرّة على الإمعان في سياستها التدميرية على كلّ المستويات، تسير مواقفها باتجاه مصالحها واستمرار إمساكها بالسلطة، وتستدير كيفما تشاء لتحفظ رأسها وتؤمّن ديمومة بقائها حيث هي في كلّ مفاصل الدولة والسلطة والقرار.
الشعب اللبناني المسكين الذي فقد كلّ شيء، وأصبح من دون حول وحيلة وقوة، لا يمكنه فعل التغيير وهو جائع ومريض وتابع ومرتهن ومتورّط بالخضوع والخنوع وبقسم الصمت على كلّ البلاءات التي قصمت ظهره، وعلى المنظومة السياسية التي ابتلعت كلّ حقوقه وماله، وخزنته وهرّبته وبنت فيه القصور، وحوّلت بعضه إلى عقارات «على مد عينك والنظر» لا يتوقع منها ان تغيّر من جلدها التمساحي ولا من عقلها المتحجّر، ولا من ضميرها المعدوم أساساً، ولا من قلبها الذي لا رحمة فيه، وهي تثبت ذلك بنفسها وبالدليل الحسي، حيث ترفض التنازل عن حق ليس لها، وعن شروط لا تخدم إلا مصالحها، وتمارس على بعضها البعض النكايات والكيدية والعناد و»تسنكف» بعضعها كالأولاد، وتتناسى أنها مسؤولة وللأسف مؤتمنة على وطن ودولة وشعب.
في المحصلة، لا يتوقعن أحد تأليف الحكومة بتوافق المنظومة السياسية الحاكمة، مع أنها متفقة على إنتاج السلبية وحماية مصالحها ومواقعها السلطوية، وثرواتها المكدّسة في مصارف الداخل والخارج. ولن تتفق على تأليف حكومة يحتاجها الوطن والمواطن قبل الانهيار الأخير. والعجب ألا يخرج أيّ مسؤول من هذه الزمرة ويتجرأ على الاعتذار من الشعب وينطق بالشهادة والحقيقة مهما كانت قاسية ومرة في البداية، ولكن مفعولها سيكون بقوة السحر وبداية الفرج.
هل نراهن على من يفعلها ويشهر صوته في مواجهة من خرّب البلد وأفقر الناس وجوّعهم…؟
هل نتائج لقاء بعبدا المخيّبة لآمال اللبنانيين، والتي رحّلت تأليف الحكومة حتى إشعار آخر بعيد المنال، ستشكل بداية مطلوبة لفرط عقد شراكة المنظومة السياسية وتقويض أسسها والإطاحة بها؟