أبعد من «داعش»
فادي عبّود
لا بدّ في ظلّ الأحداث المتسارعة في المنطقة أن نقرأ جيداً الإشارات وربطها بالاستراتيجيات المرسومة. عند سماعي تصريحات نتنياهو، لم أستطع إلا أن أتذكر الحوادث التي أدّت إلى هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة، حتى الحادثة «الحدث» في التاريخ أيّ محارق الغاز، وطبعاً لست من النوع الذي سينكر حدوث هذه المحارق وليس هذا بيت القصيد، ولكن هذه الحوادث الأليمة وهي مرفوضة ضدّ أي شعب من الشعوب، أدّت الى هجرة كثيفة إلى فلسطين المحتلة، ما أحاول أن ألقي الضوء عليه هو تركيز المؤسسات الصهيونية على تشجيع الهجرة إلى فلسطين، بالطبع المدرسة الفكرية الصهيونية تؤمن بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة، وبالتالي تمّ اللجوء إلى كلّ الوسائل لإنشاء دولتهم.
في كتابه، بعنوان: «فضائح بن غوريون: كيف الهاغاناه والموساد قامت بتصفية اليهود»، يعرض ناييم جلعادي، وهو عراقي يهودي كان عضواً في التنظيمات الصهيونية السرية وكان مشاركاً في عمليات تهريب اليهود العراقيين إلى «إسرائيل»، وألقت السلطات العراقية القبض عليه وقامت بتعذيبه وصدر عليه حكم بالإعدام، وبعدها نجح في الهرب إلى فلسطين المحتلة، وبعد أن رأى الممارسات «الإسرائيلية» غير الأخلاقية قرّر الهجرة إلى الولايات المتحدة وكتابة هذا الكتاب، إلا أنه لم ينشر أبداً لا في الولايات المتحدة ولا في الكيان الصهيوني.
ويقول في كتابه: «أعرض الجرائم التي ارتكبها الصهاينة ضدّ يهود العراق لحثّهم على الهجرة، وذلك لاستيراد اليد العاملة اليهودية الخام. فالمزارع التي كان قد تمّ إخلاؤها حديثاً تحتاج للحراثة والزراعة لتوفير الغذاء للمهاجرين والثكنات العسكرية المليئة بالمجنّدين للدفاع عن الأراضي المسروقة».
ويقول جلعاد: «إنّ الدعاية الصهيونية عمدت إلى تصوير الهجمات التي ارتكبت ضدّ اليهود العراقيين في الخمسينات هي من فعل العراقيين المعادين لليهود الذين أرادوهم أن يغادروا بلادهم. الحقيقة الفظيعة هي أنّ القنابل التي قتلت وشوّهت اليهود العراقيين وألحقت الضرر بممتلكاتهم ألقيت من قبل اليهود الصهاينة.
ومن بين أهمّ الوثائق في كتابي، نسخ من اثنين من المنشورات التي نشرتها الدعاية الصهيونية تحث اليهود على مغادرة العراق. بتاريخ واحد 16 آذار 1950، والآخر 8 نيسان 1950».
«وفي محاولات لتصوير العراقيين بصورة معادية للولايات المتحدة واليهود، زرعت الحركة الصهيونية قنابل في المكتبة العامة للاستعلامات الأميركية والمعابد اليهودية، وبعد الاعتداءات مباشرة بدأت تظهر منشورات تحث اليهود على الفرار إلى «إسرائيل»».
في الواقع… المقدمة أعلاه هي لمحاولة فهم ما يجري في المنطقة اليوم ومحاولة لفهم ما وراء وراء دعوة نتنياهو اليهود الأوروبيين إلى الهجرة إلى فلسطين المحتلة.
أصبح اليوم من الواضح أنّ نسبة الولادات اليهودية في فلسطين المحتلة، خصوصاً مقارنة بالفلسطينيين متدنية جداً، وبالتالي الحاجة إلى زيادة عدد السكان من خلال موجات هجرة جديدة أصبحت واضحة.
وبالحديث عن الهجرة المذكورة، نلاحظ وكأنّ «داعش» وأخواته وجدت في الأساس لخدمة هذه الهجرة ودعمها، لا سيما أنّ الهجرة الأخيرة التي اعتمدت عليها «إسرائيل» من الاتحاد السوفياتي السابق توقفت وقسم كبير من هؤلاء عادوا وغادروا «إسرائيل» إلى الغرب.
واليوم «إسرائيل» بحاجة إلى مهاجرين جدد لتحريك الاقتصاد وبالطبع لربح المعركة الديموغرافية التي تخوضها.
في مقال لافت لناتان شيرنسكي من الوكالة اليهودية نشرت في الكرونيكل في 15 كانون الثاني 2015 تحت عنوان: «يبدو أن اليهود على وشك أن يُدفعوا لإسرائيل سواء كانوا يرغبون في ذلك أم لا! ويقول: أعتقد أننا نشهد بداية نهاية التاريخ اليهودي في أوروبا».
ويضيف أنّ هذه اللاسامية الجديدة متصلة جداً بـ»إسرائيل» والآن في عمق جوهر القادة السياسيين والفكر الأوروبي، بات مطلوباً من كلّ يهودي أن يختار بين أن يكون موالياً لـ»إسرائيل» أو موالياً لأوروبا».
ويقول إنّ هجرة المسلمين الكثيفة إلى أوروبا وصعود اليمين الكلاسيكي، أدّيا إلى اعتماد مفهوم جديد لليبرالية حيث يطلب الآن من اليهود أن يختاروا بين «إسرائيل» و«هم».
هذا المفهوم الجديد يسبب أن أعداداً غير مسبوقة من اليهود في العالم الحرّ تتجه إلى «إسرائيل». هذا العام، واحد في المئة من المجتمع اليهودي الفرنسي هاجر إلى «إسرائيل». أرى أنّ هذه لحظة تاريخية – كبداية لعملية إبعاد اليهود من أوروبا.
ويتابع ليقول إنه بعد الحادث المروع في تولوز في عام 2012، عندما أطلق مسلح النار وأسفر عن مقتل أربعة في مدرسة يهودية ، تلقينا نداءات من المجتمع المحلي للمساعدة في الأمن وأنشأنا صندوقاً خاصاً. وأبدى كثيرون رغبتهم في المغادرة،
ولكن هذه ليست مجرد حادثة واحدة، فلأكثر من 12 سنة، ينصحون الحاخامات والمعلمين والأطفال اليهود في المدارس الفرنسية بعدم الخروج في الشارع مرتدين القلنسوة اليهودية. واعتبر أنّ اليهود في أوروبا يشعرون اليوم أنّ بإمكانهم أن يكونوا أوروبيين أكثر في «إسرائيل»، لأنّ «إسرائيل» تقاتل لتكون يهودية وديمقراطية».
وبالطبع تأتي عمليات «داعش» في فرنسا، والاعتداء على «شارلي إيبدو»، والتخوّف من امتداد التطرف الإسلامي في أوروبا لتطرح الشكوك حول هذا التوحد الغريب في الأهداف بين «داعش» والصهيونية!
لا يستطيع المراقب إلا أن يرى مدى دعم «داعش» وأخواته للكيان «الإسرائيلي»، فمثلاً حتى أهمّ من موضوع الهجرة هو موضوع التعليم، فإذا نجح «داعش» في السيطرة على قسم من العالم العربي واعتمد مناهج التعليم على الطريقة المطبّقة الآن في فكر «داعش»، أيّ التوقف عن تعليم الكيمياء والفيزياء والفلسفة والاكتفاء بالجمع والطرح في ما يتعلق بالحساب، فالأجيال التي ستتخرّج من تلك المدارس ستكون عاجزة عن ابتكار أيّ شيء، وعاجزة عن قيادة طائرة أو حتى تصنيع رصاصة، وبالتالي لن تتمكن هذه الأجيال من محاربة «إسرائيل» بأيّ شكل من الأشكال. ولن تتمكن المنطقة العربية من المنافسة في أيّ مجال من الاقتصاد مروراً بالتجارة والتعليم والطب وغيرها.
أما بالنسبة إلى المرأة فإنّ عملية تهميشها، بالمفهوم الداعشي، تكون قد شلّت نصف المجتمع وجعل من النساء سلعة لمتعة الرجال والتكاثر ليس إلا، وبهذا تكون أهمّ حرب شنّت على المنطقة وأضعفتها هي منطق الدواعش في إدارة الأمور.
أضف إلى كلّ ما ذكرنا أنّ العالم الغربي بات مقتنعاً بأنّ الشرق الأوسط بات غير صالح لإنشاء ديمقراطيات علمانية وحياة مشتركة بين كلّ الأديان والمشارب والمعتقدات، وأنّ الطريقة الوحيدة القابلة للعيش هي الطريقة «الإسرائيلية» أيّ مقاطعات دينية تقوم على سيطرة دين واحد على كلّ مقاطعة، وحتماً في هذه الحال ستكون المقاطعة اليهودية هي الأقوى والمسيطرة على المنطقة.
في الختام لا بدّ أن نذكر دائماً أنّ خلاص هذه المنطقة مما يرسم لها لن يكون إلا الالتفاف حول القضايا القومية كما طرحها سعاده ولن يكون هناك أيّ خلاص إلا من خلال أفكار سعاده.
وزير سابق