الصين وروسيا… والنظام العالميّ الجديد
سماهر الخطيب
تعجّ الساحة الدوليّة بصدامات تكاد تكون هيستيريّة بدءاً من التصريحات اللفظيّة الحادة وصولاً إلى الأفعال الجادّة بترسيخ تلك التصريحات وتحويلها إلى مواقف وأفعال، حتى باتت الساحة الدولية ميداناً تتناحر فيه الدول محاولة كل منها حصد المكاسب وحجز مكانٍ لها في النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق عقب التموضع الجديد الذي بات من دون شك واضحاً للقاصي والداني.
فهناك تلك الدول التي تدور في المدار الأميركيّ وأخرى تدور في المدار الصينيّ إذا ما فرضنا أنّ النظام العالي الجديد بات يقوم على الاقتصاد وليس الأيديولوجية التي قسمت العالم في القرن الماضي إلى معسكرين اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي ورأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية إنما بات اليوم نظاماً أكثر تشدداً من ذاك الإيديولوجي إذا ما اعتبرنا أن الاقتصاد تحكمه المصالح أكثر.
وبالتالي باتت الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية أمام معضلة التمايز بين مصلحة الدولة الاقتصادية وإرادتها السياسية؛ فسياسياً تقول تلك الدول بضرورة التحالف مع الولايات المتحدة لكونه حلفا تاريخيا من جهة، واكونه يضمن مصالحها القومية من جهة أخرى.
أما اقتصادياً فتقول مصالح تلك الدول بضرورة التشارك والتعاون مع الصين كشريك تجاري وروسيا كمورّد للطاقة وسط ما تعانيه تلك الدول من شحّ في خزينتها وتراجع في مدخولها القوميّ خاصة وسط تداعيات الجائحة العالمية كوفيد-19 وما ولّدته من أعباء على اقتصادات تلك الدول.
ما يعني أن أعضاء المجتمع الدولي ككل باتت أمام خيارين أحلاهما مرّ إما أن تختار القوة السياسية التي انفصلت عن وجهها الاقتصادي وكان عُرفاً أن الاقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة إنما في ما تعاني الولايات المتحدة ما تعانيه من تراجع في مدخولها القومي وارتفاع منسوب الدين العام وارتفاع البطالة وغيرها من الأزمات الداخلية التي باتت أولوية بالنسبة للإدارة الأميركية، وهو ما أعلن عنه مديرها في خطاب تعيينه، ولربما تتجه نحو «العزلة» لتوطيد بيتها الداخلي الذي ينذر بالتفكك واستقلال بعض الولايات عن البيت الأبيض، وهو أمر ليس بالبعيد أو حتى من نسج الخيال، إذا أخذنا بريطانيا كمثال حيث كانت دعوات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في ستينيات القرن الماضي وهي اليوم باتت منفصلة عن اتحاد كانت أول الداعين لتشكيله، إنما وجدت الحاجة الاقتصادية تقول بضرورة انفصالها رغم خسارتها للأسواق الأوروبية، لكن ما يعزّيها أنها باتت تملك القرار الاقتصادي والسياسي معاً.
أما الخيار الثاني الذي تواجهه فهو القوة الاقتصادية المتمثلة كما سبق وذكرنا بالصين كشريك اقتصادي وروسيا كمورد للطاقة وكلا الخيارين بالنسبة لمن سيختار مر، لكونه سيفصل للمرة الأولى السياسة عن الاقتصاد ويرجّح المصلحة الاقتصادية والمعيشية على المصلحة السياسية والقومية للدولة.
وأمام هذه المعضلة بدأت تشرذمات المواقف الدولية تطفو على السطح بين الدول الأعضاء في حلف الناتو وكذا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ففي الأخير تفكك ودعوات منفردة للاعتدال في علاقة الاتحاد مع روسيا وذهبت بعض الدول الأوروبية إلى تشاركية مع روسيا والصين سواء تجارية أو عسكرية أو سياسية..
أما في الناتو فهناك تشرذم في المواقف والحضور رغم تصريحات رئيسه ستولتنبرغ بضرورة التنبه من الخطر الروسي والصيني ووضعهما في أولى التهديدات للحلف إنما يظهر التشرذم في عدة مواقف. فالطموح التركي لتسجيل مكانة خاصة في النظام العالمي الجديد يأتي خارج السرب الناتويّ مع دعوة فرنسية لتحديد مكانة تركيا في الحلف ولا ننسى تصريحات الرئيس الفرنسي العام الماضي التي وصف فيها الناتو بـ»الموت الدماغيّ» وتعنّت ألماني لتنفيذ مشروع خط السيل الشمالي رغم الرفض الأميركي وترافق مع تأكيد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تبني الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مواقف مشتركة تجاه الصين وروسيا وتركيا، إنما ليس هناك تطابق كامل للمواقف على الرغم من وجود الكثير من النقاط المشتركة.
وكذلك الإصرار التركي على شراء منظومة الصواريخ أس- 400 الروسية رغم الرفض الأميركي أيضاً، وأمام هذا الرفض الأميركي نجد تضارباً بالمصالح والمواقف مع حلفائه وسط تعامل روسي وصيني مع دول الاتحاد كلٍ على حدة كجزء من الكل وهو في صلب الاستراتيجية الروسية وكذلك الصينية…
أما بريطانيا الشريك في الناتو والطليق في الاتحاد الأوروبي فنجدها تتطلع إلى ضم المزيد من الرؤوس النووية إلى ترسانة جيشها بنسبة 40 في المئة، والتي فسّرت سبب زيادة ترسانتها النووية بضرورة مواجهة روسيا لا سيما أنها تتقرب من دولة قوية أخرى معادية للغرب وهي الصين.
وفي إعلانها هذا مسايرة للحليف الأميركي في مجال السياسة الخارجية، لكسب السوق الأميركي بعد خسارته السوق الأوروبي كما أن إعلانها هذا إرادة (أميركية) خفية لجر روسيا والصين إلى سباق تسلح منهك، آملة أن يضعفهما هذا السباق.
في المحصلة، لم يكن مفاجئاً، أن يسير الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن على خُطى سلفه دونالد ترامب، ويضع الصين في خانة العدوّ الأوّل، والأخطر، بسبب خطواتها المُتسارعة، اقتصادياً وعسكرياً للتربّع على عرش القوّة الأعظم في العالم.
خاصة أن تقريراً استخبارياً أميركياً، قد كشف أنّ «الصين تجاوزت أميركا في عدد القطع البحريّة، بحيث باتت رسمياً أكبر قوّة بحريّة في العالم، وبات لديها 360 قطعة بحرية هجوميّة تضم سفناً وغواصات نوويّة وطائرات مسطحة بالمقارنة مع 250 قطعة هي مجموع قطع الأسطول الأميركي في الوقت الراهن».
وأمام الاستراتيجية الأميركية البراغماتية القائمة على استخدام الجميع لترسيخ مفاهيمها وقوتها، تعمل الصين بصمت مدعوم بالثقة العالية لتأتي الاستراتيجية الصينية، القائمة على عدة خطط محكمة الإعداد: الأولى، بناء بنى تحتية اقتصادية قويّة، والثانية، قوة عسكرية نووية صاروخية متطوّرة، والثالثة، ترسانة من الأسلحة السيبرانية والذكاء الاصطناعي، ويبدو أن هذه الاستراتيجية بدأت تدخل طور الاكتمال. حيث تُؤكد مُعظم التقديرات الغربية أنّ الصين “ستصبح القوة الاقتصادية الأعظم في العالم في غضون خمس إلى عشر سنوات، وسيصبح (اليوان الذهبي) الصيني العملة الرئيسية الأولى في العالم، وربما يطيح بهيمنة الدولار، والنظام المالي الغربي الذي حكم العالم واقتصاده منذ الحرب العالمية الثانية”.
وبينما يُعاني الاقتصاد الأميركي من أزمة فيروس كورونا، تعافت منه الصين واستطاعت احتواءه كلياً، وحقّقت نمواً اقتصادياً تجاوز التوقعات ليصل إلى 6.5 بالمئة مرشّحة للارتِفاع بنسب عالية، كما جرى امتصاص العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وذلك بحسب ما أفادت به معظم التقارير الغربية، بل وأعطت نتائج عكسية أبرزها تطوير قدرات الصين الذاتية خاصة في المجالات العسكرية، وامتِلاك قُوّة ردع دفاعيّة وهُجُوميّة جعلتها تُحكِم سيطرتها على بحر الصّين الجنوبي، بما يُنهي الهيمنة العسكريّة الأميركيّة في شرق آسيا تَدريجيّاً.
في حين يسود إدارة بايدن الانقِسام والتّوتّر والأزمات الاقتصادية والصحية، والقلق الداخلي، وفوق كل ذلك باتت تُواجِه تحالفاً روسياً – صينياً مُتعاظِماً، يُغطّي نُفوذه مناطق عديدة من العالم على حِساب النّفوذ الأميركي الغربي، ولعلّ هذا ما يُفَسِّر استِجداء هذه الإدارة الجُلوس مع إيران للعودة إلى الاتّفاق النّووي، وإعادة ترتيب بُيوت حُلفائها، ومُحاولة الهُروب مِن الحُروب المُتأجِّجَة في الشرق الأوسط.