كتابة تاريخ لبنان… هل هناك مدرسة جديدة؟
السيد سامي خضرا
مُمتعٌ الاستماع إلى مؤرّخٍ يُحدِّثك عن التاريخ ويُعيدك إلى وقائعه وأحداثه وحقائقه خاصةً إذا كان مُنصفاً وموضوعياً ومُتسلحاً بالدليل والبرهان.
لكن هذه المتعة تنقلب إلى مأساة واستفزاز إذا كانت عمليةَ اختراعٍ أو استحضار أو كتابةٍ للتاريخ بطريقة تخضع للأهواء والرغبات والشطحات وعلى قاعدة “ما يطلبه المستمعون” وما يطلبه المستعمرون ووكلاؤهم.
وهذه النوعية الثانية هي التي اعتدْنا عليها نحن في لبنان منذ قرنٍ من الزمن وللأسف لها الغلبة لأنّ المنظومة المُسيطِرة تناغمت مع هذا “التاريخ” من النواحي الإعلامية والمناهج المدرسية والنشاطات الفنية والأغاني والمسرحيات مع مجموعةٍ مُختارة ومُنصَّبة من المفكرين والفلاسفة الحصريي اللبننة!
لذلك نطمح نحن في لبنان أن يكون هناك رجالٌ من أصحاب الرغبة الحقيقية في كتابة التاريخ واسترجاع حقائقه بطريقةٍ منطقية علمية مُنصفةٍ أو فلنقُلْ بطريقة محترمة طالما افتقدناها!
من هنا كان التفاعل على وسائل التواصل بطريقةٍ مُلفتة مع الدكتور شارل حايك حيث انتشر مقطعٌ مُصوّرٌ له يتحدث فيه عن شيعة لبنان مع لَمَمٍ من تاريخهم.
وسبب هذا الانتشار الكبير أنّ الكلام عن الشيعة من غيرهم وبشكلٍ عام له طريقةٌ خاصةٌ سائدة تكون عادةً مسبوقةً بتصوّراتٍ وأحكامٍ وإسقاطات فيها الكثير من الإجحاف الذي لا يخلو من ظلم وتحويرٍ للحقائق التاريخية فضلا عن الإغفال المُتعمَّد.
مَيِّزةُ هذا المقطع أنه وحسبَ ما يبدو سلّط الضوء على وَمَضاتٍ من تاريخ الشيعة في لبنان وهم أصلٌ أصيل فيه ولهم أدوارهم على مختلف الأصعدة خاصةً العلمية منها والجهادية، ولكن الذين “كتبوا” أو “وضعوا” تاريخ لبنان الحديث كانوا مِمَّن تَلبَّسَتْهم نزعاتُ الاستعلاء والفوقية والعصبية ومحاولة اختراع تاريخ لا يخلو من أساطير في ما يتعلق بأحداثٍ وهمية وفي أحسن حالاتها أحداث مبالغٌ فيها أو أشخاص خياليين تُنسبُ إليهم بطولات وأمجاد حتى أصبح هذا النهج التاريخيُ غير الموضوعي سُنَّةً سائدة نعرفها جميعاً نحن في لبنان بل نرى انعكاساتها البائسة مع الأحداث التي نُعايشها اليوم وكذلك مع أشخاصٍ يُنْظَر إليهم من زَواية مختلفة فَيُصَغَّرُ الكبير ويُكَبَّرُ الصَغير ويُتَّهم المناضل ويُرفَّع شأن الخائن!
ومن أسباب انتشار هذا المقطع أننا لا نرى مَن يتكلم بإنصافٍ وموضوعية ومنهجية وبطريقةٍ علمية عن التاريخ اللبناني إلا ما ندر، وأما الأجواء العامة فهي كِناية عن شَطَحَات مُحلَّاة بالأساطير وقاعدة “أُطلب تجِد”!
وما هكذا يُكتبُ أو يُطلب التاريخ.
وفي هذا المقال الموجز جداً أجد من المناسب أن أَذْكر المؤرخ المعروف الأستاذ “كمال صليبي” (رئيس دائرة التاريخ وعلم الآثار في الجامعة الأميركية في بيروت) والذي بدأ في بداياته في أجواءٍ مُعينة لم تَشِذ كثيراً عما هو سائد لكنه عَدَلَ عن ذلك في سنوات عمره الأخيرة نحو الإنصاف والإتزان النِّسْبِيّين واستطاع أن يُقدِّم شيئاً طالما انتظرناه وافتقدناه وما زلنا.
لِذا أمِل الناس في ما قاله الدكتور شارل حايك أن يكون هناك مدرسة جديدة أو توجهٌ ومهما كان مُختصراً أو خجولاً لكنه وكما نأمل أن يبدأ من مكانٍ ما في طريقٍ لا شكّ أنه طويل وبحاجة إلى صبرٍ استثنائي بعد طول إجحافٍ وظلم تبنَّاهُ المُهيمنون على لبنان الجديد في القرن الماضي والذين فَصَّلوا لبنان المعنوي قبل الجغرافي على مقاساتٍ خاصةٍ أثارت استهجان وعجبَ بعض البعثات الأجنبية المُتخصّصة كما ذكر ذلك صليبي نفسه.
وبما أنّ هذه المقابلة كانت “وقفة” مختصرة جداً ولكنها نور أمل لِمن يرغب أن يكون جَريئاً مُحباً للحق والعلم ولا تسكنه هواجس الإسقاطات.
ولو كان هناك مجالٌ للبحث لخضنا أكثر في بعض النقاط التي ذُكرت في المقطع من قبيل إغفال دور الشيعة في مقارعة المستعمر الفرنسي الذي لا يَقلّ إجراماً عن أيّ مستعمرٍ آخر فضلاً عن التاريخ الجهادي لِمن ذُكِروا والإهمال الفادح لو رجعنا إلى ملفات الأربعينات والخمسينات والدفاتر الحكومية للبلديات لنرى أنّ الجنوب والبقاع الشمالي وعكار كأنها لم تكن موجودة أصلاً في الحساب اللبناني الجديد فضلاً عن الإغفال التامّ من أنّ هذا اللبنان الذي نتكلم عنه اليوم لا يمكن لنا أن نُبقيه خارج تاريخه وجغرافيته الحقيقيتين وانتمائه إلى بلاد الشام بكلّ ما تعني بلاد الشام من معنويةٍ وتاريخ.