مشروع قناة «كرا»: الصين «تفلت» من مضيق ملقا

علوان نعيم أمين الدين

يرى البعض «انّ المحللين أهملوا، في معظم الأحيان ، أهمية المحيطات والبحار في العلاقات بين الشعوب ، اذ كانت طرق المواصلات البرية هي الأساس ما دام أنها تعبر الحدود بين القارات والدول ، ولكن معظم التجارة العالمية تسلك طريق البحار والمحيطات منذ القدم ، فاليوم مثلاً 90 من التجارة العالمية ، و 65 من النفط يتحرك عبر البحار.»

من هذا المنطلق، احتلت المملكة المتحدة العالم من خلال اسطولها البحري، وكانت النموذج الفريد لـ«القوى البحرية» ومدى قدرتها على التحكم بالاقاليم التي احتلتها بعيداً عن المركز اي الاقليم البري الانجليزي مما جعلها «سيدة البحار» و«الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.»

على هذا النحو، وبتصنيفها كقوة بحرية بحسب النهج الجيوبوليتيكي، حذت الولايات المتحدة حذو المملكة المتحدة وانشأت اسطولاً بحرياً ضحماً قادراً على التدخل في اي منطقة يريد، كما قسّمت العالم الى قطاعات عسكرية لكل منها اسطول يحميها مثال: الاسطول الخامس في الخليج العربي، الاسطول السادس في البحر المتوسط، الاسطول السابع في المحيط الهندي .

في ما يخص موضوعنا، شرع البنتاغون، في العام 2012، الى «مراجعة حجم وتوزيع قواته العسكرية في منطقة شمال شرق آسيا والتي تعود إلى مرحلة الحرب الباردة، وبدأت الولايات المتحدة في تقليل تواجدها في اليابان وكوريا الجنوبية وتكثيف تواجدها في منطقة جنوب شرق آسيا حيث المدخل المهم للتأثير على المنطقة برمتها، المتمثل في مضيق ملقا.»

ويرى بعض الباحثين انه «من المتوقع في ظل التراجع في القوة الأميركية على الصعيد العالمي، أن تشهد مناطق من العالم صراعات جيوبوليتيكية»، ومن المناطق المرشحة لمثل هذه الصراعات «منطقة شرق وجنوبي شرق آسيا وهي المنطقة التي شهدت بدورها مؤخراً عودة لمعادلة القوة وجيوبوليتيك الطاقة عندما استعرضت بكين قدراتها العسكرية في بحر الصين عبر نصب منشآت بالقوة في مناطق بحرية تعتبرها كلّ من الفليبين وفيتنام تابعة لها.»

في زيارة للصين آب 2014، سألت احد كبار المسؤولين في الخارجية الصينية: «ماذا لو تمّ اغلاق مضيق ملقا في وجه الصين ضمن الصراع الاقتصادي الخفي مع الولايات المتحدة خصوصاً ان المحللين الاستراتيجيين يتعبرون أن المحيط الهندي سيكون مسرحا للصراع العالمي في القرن الواحد والعشرين؟» اجاب وعيناه ممتلئة بالحذر «انّ مثل هكذا خطوة ستكون ضربة في العمق الاستراتيجي الصيني»، واضاف: «بكل تأكيد لن نسكت على ذلك.» من خلال ردّ الفعل هذا، تشعر لأول مرة بأنّ الصين ليست بعيدة عن استخدام جميع الوسائل، حتى العسكرية منها كآخر الخيارات، من اجل حماية امنها القومي والحفاظ على نموها الاقتصادي.

بعد تطور نموها بشكل قياسي، ادركت الصين اهمية هذا المضيق، تحديداً، بالنسبة لمستقبلها على الساحة الدولية ليس فقط لجهة التصدير بل الاستيراد ايضاً خصوصاً لناحية النفط ومواد الطاقة التي تعتبر المحرك الاساسي للصناعات الصينية وتحديداً بعد إعداد خطة للتخلي التدريجي عن الفحم الحجري كمصدر للطاقة بسبب الانبعاثات الكربونية السامة التي تخرج منه. لهذا، تم وضع «عدد من المشاريع منها ما قامت به الصين، اعتباراً من العام 2009، حيث باشرت بمدّ خط أنابيب للنفط والغاز بطاقة 240 ألف برميل في اليوم، من ساحل بورما ميانمار على المحيط الهندي، إلى الداخل الصيني في منطقة هينان.»

يعتبر مضيق ملقا ممراً اساسياً لطريق «الحرير البحري» نحو الغرب، منه تتجه الصين الى الدول المشرفة على المحيط الهندي مروراً بالخليج العربي والبحر المتوسط وصولاً الى اوروبا وشمال افريقيا. كما يعتبر ممراً حيوياً للوصول الى القارة الافريقية من جهتي الشرق والجنوب، حيث للصين مناطق تجارية كبيرة تتمركز على سواحل الدول المتشاطئة.

برز اهتمام الصين في مشروع يقيها «شر» المرور في مناطق قد تصبح مقفلة عليها مستقبلاً، حيث ابدت اهتماماً كبيراً بالاستثمار في «قناة سيتم شقها عبر برزخ كرا ايسثموس في جنوب تايلاند كقناة آسيوية على غرار قناة بنما، لتخفيف الضغط على مضيق ملقا ومشاريع ربط منطقة البحر الكاريبي بالمحيط الهادي. وبحكم التمركز الجغرافي للصين ومشاريعها العملاقة لربط قارات العالم لا محالة أنها قادمة بقوة مستخدمة سلاح الربط بين أسواق العالم بصورة خلاقة، وتطبيق القواعد الجديدة بلكنة صينية خالصة، وإنْ كانت القيادة ستبدو جماعية مع حلفائها في ظلّ تراجع الولايات المتحدة البطيء.»

ففي آذار عام 2014، ذكرت صحيفة «ديلي» الصينية أنّ شركتي LIUGONG وXCMG للمعدات الثقيلة قد استعدّتا فعلاً للبدء في المشروع غير ان الشركتين اعادت ونفتا الموضوع.

بالنسبة إلى المشروع، من المتوقع ان يستغرق، حال البدء بتنفيذه، بحدود 5 سنوات مع تكلفة اولية تقدر بـ650000 مليون باهات تايلاندي اي ما يعادل حوالي 19.9 مليار دولار، علماً أنه لم يتحدّد بدقة بعد طول القناة وعرضها ومكان حفرها.

بغض النظر عما سبق، يبقى هناك سؤال محوري حول المشروع بشكل عام. هل ستكون له فائدة عملية؟ ام انه مجرد تخطيط ليس له قيمة؟!

من خلال المتابعات والدراسات، تتبلور العديد من الفوائد يتمثل اهمها في:

فوائد عامة

1. اختصار الوقت. ان السفن العابرة لمضيق ملقا ستوفر ما بين يوم الى ثلاثة ايام حسب حجم السفينة عن المسار البحري الذي تمرّ فيه. وبسبب جغرافية المضيق الصعبة، فإنّ معدل سرعة السفينة هو اقل من 12 ميل بحري في الساعة اي ما يعادل 20 كلم

2. التوفير بمسافة القناة نفسها عبر المرور فيها حوالي 800 كلم من جهة، والدوران لجهة مضيق ملقا صعوداً الى الشمال لناحية بحر الصين الجنوبي من جهة اخرى حيث انها ستدور على شكل حرف «U» تقريباً. ان المشروع سيوفر مسافة تقدر بحوالي 1200 الى 1400 كلم من جهة مضيق ملقا وحده اذ تزيد المسافة اكثر بكثير حال المرور في مضيقي لومبوك وسوندا. للعلم، انّ برزخ «كرا ايسثموس» يبلغ حوالي 44 كلم، عند انحف نقطة فيه

3. التوفير في الوقود الذي سينعكس ايجابياً لناحية التقليل من الاضرار البيئية لجهة انبعاثات الغازات الملوثة ام تلوث المياة من جراء العبور الكثيف للسفن يومياً

4. التوفير في مصاريف الشحن وهو انعكاس حقيقي يعود سببه للتوفير في الوقت والمسافة والوقود

5. من المتوقع ان تنخفض مبالغ التأمين على السفن المارة لتدني امرين: التصادم والقرصنة. ان مضيق ملقا ينتهي بمجموعة من الجزر الصغيرة وانتشار الضباب بشكل كثيف يزيد من امكانية التصادم البحري، علاوة على تربص القراصنة على مخرج المضيق. فعلى الرغم من «تأكيد كل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة على حقهم الأوحد في حماية المضيق وتأمين الأمن للملاحة عبره، فإنّ دولاً أخرى عرضت خلال مراحل مختلفة المساهمة في ذلك، من بينها: أستراليا، واليابان، والصين والولايات المتحدة الأميركية والهند.» في هذا الخصوص، صرح مدير المكتب البحري الدولي بوتنجال موكوندان قائلاً «استهدفت هذه الهجمات الخطيرة حتى الآن الناقلات الصغيرة أثناء إبحارها بالقرب من السواحل، وننصح هذه السفن بالإبقاء على إجراءات صارمة مناهضة للقرصنة فى هذه المياه، والإبلاغ عن كل الهجمات وعمليات الاقتراب المثيرة للريبة من جانب المراكب الصغيرة»، واضاف «إنّ عدد حوادث القرصنة فى العالم انخفض من 116 من كانون الاول إلى حزيران الماضيين 2014 ، مقارنة بـ 138 حادثاً جرى الإبلاغ عنها فى نفس الفترة من العام الماضي 2013 .»

زيادة في الاحتياط، قرّرت قوات الدفاع من الدول العشرة الأعضاء لرابطة دول جنوب شرق آسيا آسيان التخطيط لإجراء مناورات بحرية مشتركة الأمن في مضيق ملقا في عام 2015

6. هذا المشروع «سيهدّئ من الاكتظاظ المروري» الذي يشهده المضيق

7. تحتاج السفن الضخمة الى عمق يزيد على العشرين متراً كي تستطيع المرور. حالياً، لا يمكن لهذه السفن المرور في ملقا اذ عليها الذهاب الى مضيق سوندا او لومبوك مما يزيد من الوقت المستغرق، والمسافة والكلفة. هذا الامر قد يكون من الاشياء التي يمكن لقناة «كرا» ان تستفيد منها ايجابياً

8. ان منسوب المياه بين مدخلي القناة مناسب جداً، اذا لا يزيد الارتفاع عن متر واحد ما يعطي ميزة اضافية للمشروع بحيث يمكن التخلي عن بوابات حاجزة للمياه الهدف منها رفع وخفض المنسوب على غرار قناة بنما.

فوائد خاصة بتايلاند

1. سيؤدّي المشروع الى ايجاد دخل مادي كبير من جراء تقاضي رسوم المرور اذ يقدّر عدد السفن التي ستمرّ فيها يومياً ما بين 300 و350 سفينة. مع العلم بأنّ المرور في مضيق ملقا هو مجاني، الا انّ التوفير في المسافة والوقت والوقود وكلفة التأمين قد يدفع العديد من السفن إلى استخدام القناة كبديل عن المضيق

2. تشغيل عدد كبير من اليد العاملة في القناة والمرافق التابعة لها او تلك التي ستنشأ على ضفافها مرافئ للصيد مثلاً

3. ستصبح القناة محطة للمشاريع الاستثمارية مما يرفع قيمة الاراضي على ضفتيها، وسيجذب رؤوس الأموال العالمية، اضافة الى استفادة لتايلاند نفسها. على سبيل المثال، ستأخذ تايلاند مكان سنغافورة لجهة الخدمات التي تقدمها للسفن المارة في المضيق حيث تزوّد الاخيرة السفن بحوالي 56700 طن من الزيوت يومياً. ان مبيع شهر واحد من الزيوت يوازي مبيع نفس الكمية في تايلاند ولكن خلال عام كامل

4. توفير الامن لتايلاند من خلال الإشراف الأمني الكامل على القناة مما سيخفف من زيادة المخاطر

5. الاستفادة من المشاريع التي ستقوم بمناسبة القناة كالجسور والأنفاق التي ستنشأ كونها ستفصل اقليم تايلاند البري الى قسمين: شمالي وجنوبي.

فوائد خاصة بالصين

1. الخروج من تحكم الدول المشرفة على المضيق. ففي حال كسبت المشروع، ستكون القيم المباشر على ادارة القناة كما هو الحال في مشروع قناة نيكاراغوا التي بدأت بتنفيذه. من هنا، تسعى الولايات المتحدة جاهدة الى إبرام العديد الاتفاقيات مع الدول المشرفة على المضيق من اجل تعزيز تواجدها العسكري فيه، مما قد يؤدّي الى إمكانية إقفاله في وجه بكين لعدم وجود اتفاقية دولية تنظم حركة المرور فيه قناة السويس على سبيل المثال .

اضافة الى ذلك، يرى البعض بأنّ مضيق ملقا يحظى بأهمية إضافية للولايات المتحدة لكونه «يمثل الشريان الحيوي لواردات حلفائها في المنطقة لا سيما اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من جهة، وكذلك بالنسبة إلى خصم هذه الدول والنجم الصاعد على المستوى الإقليمي والدولي، ألا وهو الصين.»

2. إقامة مناطق اقتصادية حرة صينية على ضفاف القناة مما يعطي دخلاً إضافياً لها، ويساعد في تنمية وزيادة صناعاتها ويخفف من كلفة الإنتاج ما ينعكس على نمو وزيادة حجم الصادرات

3. انّ وجود مناطق اقتصادية يستدعي تواجدا عسكريا في حال التوترات للحفاظ على المصالح، وهو امر طبيعي بالنسبة إلى العلاقات الدولية المعاصرة اذ تعتبر الدول الكبرى بأن أيّ مسّ بمصالحها التجارية في الخارج هو مس بأمنها القومي.

استفادة لقارة آسيا ككلّ

يرى مرشح الرئاسة السابق والباحث الأميركي لندون لاروش بأنّ هذا المشروع يعتبر حيوياً وسيشكل دفعة للإمام في ما خص التنمية الاقتصادية وتحديداً لمنطقة شرق وجنوب آسيا. اضافة الى لاروش، يتمنى بعض الكتاب الاستراتيجيين «ولادة» هذه القناة لما فيها من خير كبير.

في الختام، ان مثل هذا المشروع ستكون له فائدة عالمية عامة وصينية خاصة، حيث من الضروري ان تقوم بكين بما يلزم من إجراءات لكسب حقوق المشروع على غرار قناة نيكاراغوا حتى ولو أدّى الأمر إلى المزيد من التنازلات بهدف الإفلات من الطوق الأميركي الذي تحاول واشنطن فرضه لتقويض «الصعود الصيني». كذلك، تعلم الصين جيداً أنّ ما تقوم بتقديمه من مشاريع وإنشاءات ولو كانت مكلفة سيعود عليها بالنفع وانْ لم يكن بشكل مباشر، فهي تتعامل مع الدول على أساس التنمية المتبادلة وهي السياسة الناجحة والبديلة عن سياستي التبعية والاخضاع.

جزء من كتاب سيصدر قريباً

باحث في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى