أخيرة

«صناعة التفاهة» التي فتكتْ بأجيالنا وأوطاننا

} السيد سامي خضرا

منذ سنوات حذّر البعض من أهل الخبرة والاطلاع من تفاهات لا تحصى تبث عبر الفضائيات من خلال برامج الواقع وبرامج أخرى كثيرة ويُنفَق عليها بسخاء لم يعرفْه الإعلام العربي منذ بدايته على الساحة الفضائيّة.

فالاستغراق المرضي في اكتشاف «المواهب» وخاصةً الطرب والغناء ومستتْبعاته ليشمل كباراً وصغاراً وشباباً ويافعين وحتى أطفالاً وبرامج الواقع المختلفة والتي أصبحت الشغل الشاغل للبيئة العربية بعيداً عن هموم الأمة واحتياجات الشعوب وواقعها الاقتصادي والأخطار الاستراتيجية… إلى درجة أنه في إحدى الليالي من عام 2008 تظاهر الناس في منطقة الروشة في بيروت على باب إحدى الفضائيّات اعتراضاً على نتيجة أحد البرامج في ترجيح مطرب على آخر في الوقت نفسه الذي كانت دماءٌ فلسطينية تسفك على أرض غزة من دون أن يحصل نتيجة ذلك أيّ تحرّك شعبي معتبر!

كان الأمر في منتهى الغرابة أن تنشأ مؤسسات وفضائيات ومجموعات تجارية وشركات «فنية» على مستوى العالم العربي لرعاية المطربين والمطربات والاستفادة من مواهبهم بتكاليف مالية خليجية تفوق ما أنفقوه على فلسطين!

وتنسحب التفاهة وممارساتها على كلّ مساحة الحياة وطريقة العيش وتفاصيل المعيشة وأساليب العلاقة في المجتمع وحتى على المفاهيم المجرّدة والتي يسمّى بعضها في أيامنا هذه «فناً وثقافةً» وقد يطلق البعض عليها مصطلحاً «علمياً» وهو في الواقع غير صحيح.

المهمّ أنّ التفاهة تسطّح المفاهيم والعقليات والمسلكيات وتسخّف أهداف الحياة وسموّها وعلوّها والأهداف الإنسانية، وفي هذا الخضمّ يختلط الكبار مع الصغار والعقلاء مع الجهّال والمؤثرين مع التافهين والحكماء مع السّفهاء وعندئذ تسلب السعادة وتسود التعاسة وتضيع الجدية ويشيع السخف.

وفي زماننا هذا انتشرت التفاهات بطريقة واسعة بسبب طبيعة الاتصالات المستجدّة والتي تملك مساحةً واسعةً إعلامياً وإعلانياً بما يصعب حصره من أساليب التأثير والتي تفتك بالبشرية زرافات وجماعات ومجتمعات وأفراد فلا تبقي ولا تذر.

ولا بدّ من لفت النظر إلى أنّ هؤلاء الناشطين على وسائل التواصل يستعملون كلمات مؤذية ونابية ولا يتورّعون عن السباب والشتم.

إنها ببساطة «صناعة التفاهة» التي نذكرها اليوم ونتوقف عندها بآلام مضنية وأوجاع مزمنة لأنّ الأثمان المعنوية والمادية التي تراكمت علينا سوف تكون باهظة ومن المشكوك أن نستطيع تحمّل خسائرها الفادحة.

وهذا الذي كان يخشاه الكثيرون من بعيدي النظر وأصحاب المواقف الوطنية والقومية والحسّ السليم والبصيرة الثاقبة.

 ولكن وفي خضمّ أبواق وضجيج الطبل والزّمر كان من المتعذّر أن تسمع الكلمات والآراء المحترمة بما فيها المصيرية والتاريخية!

«صناعة التفاهة» على المستوى الحضاري جريمة بامتياز وبكلّ ما في الكلمة من معنى، حيث سيضيع عشرات الملايين من البشر في عشرات الأوطان من أجل «مشاهير» نصّبوا علينا «قدوات» ظلماً وعدواناً حيث شغل الناس في تفاصيل حياتهم ويومياتهم وسخافاتهم وعقدهم وخلافاتهم… وليقامر بثرواتنا ومستقبلنا واستقلالنا ولنعيش اليوم في واقع غامض وألم لا ينتهي!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى