أولى

التعليق السياسي

كذبة العقوبات

منذ العقوبات الأميركيّة التي استهدفت وزراء سابقين في سياق الضغط التفاوضيّ على ترسيم الحدود البحرية، هم الوزراء المعنيون بالترسيم، وزير المال والمعاون السياسيّ لرئيس مجلس النواب، ووزير الأشغال الذي تشرف وزارته على الحدود البحرية، ووزير الطاقة الشريك بالترسيم ورئيس التيار السياسيّ لرئيس الجمهورية، والحديث السياسي المرتبط بتشكيل الحكومة يرادفه حديث موازٍ عن نوايا فرنسية أوروبية بفرض عقوبات تحت شعار ملاحقة المعطلين مرة، وملاحقة الفاسدين مرات، والبعض يسوّق لهذه العقوبات بفرح سياسي يريده حرباً نفسية على خصومه، وتلميعاً للأدوار الخارجية كأنها حريصة على تحرير لبنان من الفساد، وهي التي رعت وحمت وقامت بفتح الباب أمام الاستدانة التي ورطت لبنان بكتلة دين كبرى، أنفق أغلبها تحت عيون هذا الخارج، وفي الإنفاق ما فيه من فساد بمعرفة الخارج وتشجيعه، وأبرز التشجيع العودة لفتح باب الاستدانة.

الحديث عن العقوبات مرة أخرى بدأ فرنسياً، والمصدر كان وزير الخارجية جون إيف لودريان، والسياق تعثُّر مسار تشكيل الحكومة، التي أطلقت البحث فيها مبادرة الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون، ولأن الوزير الفرنسي يعرف حجم الصعوبة في التصرّف بإصدار عقوبات في ظل النظام القانوني الفرنسي الذي يحصر العقوبات بالقضاء المستقل، وبإجراءات تتصل بارتكاب جرائم بحق الأمن القومي الفرنسي او تبييض الأموال أو سواها من الجرائم التي تحتاج تحضير ملف قانوني منفصل عن السياسة، ولا يمكن ربطها بمسعى سياسي معين، فقد لجأ الوزير الفرنسي لاستثارة الآلية الأوروبية كبديل، عبر حث وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لتبني الدعوة لإنزال العقوبات بمن وصفهم بمعرقلي تشكيل الحكومة العتيدة، ولأن الآلية الأوروبية للعقوبات السياسية محصورة هي الأخرى بما تشترطه من عناصر تتصل بإنزال العقوبات بدول وكيانات توجّه لها الاتهامات، بالاعتداء على سيادة دول أخرى أو انتهاك حقوق الإنسان، أو تهديد الأمن الأوروبي، أو الجرائم القانونية الموصوفة، كتبييض الأموال وجرائم الفساد المحددة قانوناً، فقد رد الوزراء الأوروبيون الطلب الفرنسي ودعا مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على كلام لودريان بتصريح قال فيه، إن الاتحاد يدعو الأحزاب السياسية اللبنانية الى إنجاز وفاق سياسي يساعد في عملية إنقاذ لبنان من الانهيار.

يستمر الكلام في لبنان عن العقوبات الفرنسية والأوروبية، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، من أوساط تنتمي لفريق مناهض للمقاومة ولرئيس الجمهورية، ويشيرون بأصبع التهديد نحو الفريقين، وفي كل مرة يتحدثون عن مهلة أيام، وتمضي الأيام ولا تأتي العقوبات، ومرة يتحدثون عن مصادر مصرح لها في قصر الإليزيه ومرات يتسصرحون صحافيين وإعلاميين لإبقاء الحملة حرباً نفسية ضاغطة، وهم يعلمون بأن أحد عناصر الإحجام عنها لا يعود فقط للصعوبات القانونية، ولا للحياد والموضوعية السياسية، بل للنباهة المصلحية، فدور الوسيط يسقط بالانحياز المكشوف، وحصر العقوبات بالخصم التقليدي واستثناء الحليف يصيب صاحب العقوبات بتهمة التحيّز ويسقط دوره كوسيط، وشمول الجميع بالعقوبات يسقط الوظيفة السياسية الضاغطة للتلويح بها، وهي إضعاف فريق لحساب فريق، بين المعنيين بتشكيل الحكومة. وفرنسا كما أوروبا معنيتان بمصالحهما أولاً، وعنوانها حكومة تنالان منها مشاريع وعقوداً، عبر عنها الرئيس الفرنسي بتركيبة الوفد الذي رافقه وضم شركات في مجالات الطاقة والموانئ، وعبرت عنها ألمانيا بإرسال وفد اقتصادي من عدة شركات متخصصة بالمرافئ وسكك الحديد.

سيبقى الكلام عن العقوبات في التداول، لأن فرنسا وأوروبا تراهنان على سرقة وقت الانشغال الأميركي بأولوية التوصل للاتفاق على الملف النووي مع إيران، لإبرام الصفقة السياسية الاقتصادية التي تكرس دورهما ومصالحهما لبنانياً، وهما تخشيان بعد إنجاز الاتفاق الذي يعيد واشنطن إلى الاتفاق مع طهران، من تغير الموازين لصالح فريق المقاومة وحلفائها، من جهة، ما يضعف فرص الضغط على شروط التأليف لحساب كفة مصالح تعهد بضمانها الفريق الآخر المعني بتشكيل الحكومة، ومن جهة أخرى تخشيان أن تبدي واشنطن اهتماماً منافساً للاهتمامات الأوروبيّة، وفي القطاعات الاقتصادية ذاتها، لكن العقوبات ستبقى سلاحاً فاشلاً وكذبة كبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى