محاولة لفك شيفرة الحرب الأهليّة وخريطة طريق لمغادرتها
ناصر قنديل
– قبل ست وأربعين سنة انفجر لبنان من الداخل أو تم تفجيره من الخارج او حدث الاثنان معاً، لكن المهم أن اللبنانيين عجزوا بنخبهم السياسية وقياداتهم الفكرية ومراجعهم الدينية عن احتواء هذا الانفجار والاحتكام الى معادلات بديلة، تنجح عادة المجتمعات التي تمتلك درجة من الوعي والحكمة باعتمادها لإدارة خلافاتها. وأعتقد أن جوهر ما يستحق النقاش هو هنا، وليس في البحث الذي بدأ ولم ينته حول أسباب الانفجار، مرة للقول ذرائعياً إنه إعلان سقوط النظام الرأسمالي الريعي، لتبرير تموضع في الحرب بمنظور طبقيّ، وقد عاد النظام الرأسمالي الريعي أشدّ قوة بعد الحرب، وهو اليوم المتحكّم الأبرز برقاب اللبنانيين بعد ثلاثين عام سلام، معبراً عن أشد الأزمات عنفاً اجتماعياً على اللبنانيين من دون أن يبشر باصطفاف طبقي ينشده الكثيرون. ومرة لقول ذرائعي آخر أن اللبنانيين كانوا ضحايا لحروب الآخرين على أرضهم، لتعزيز عنصرية لبنانية تشاوفية بالتفوق والتعالي تلبس ثوب الضحيّة النزيهة، أثبتت حروب التوحّش التي خاضها اللبنانيون بوجه بعضهم البعض انها مجرد وهم عاشته شعوب أخرى بعنصريّات أخرى وارتكبت مثل اللبنانيين توحشاً آخر. ومرة للقول إن النظام الطائفيّ قد أفلس لكن سرعان ما جاءت نهاية الحرب على قاعدة تعويم النظام الطائفي ولم ينل اللاطائفيون إلا وعداً بالسير بعد مرحلة انتقالية تحوّلت الى شيك بلا رصيد، نحو نظام لاطائفي. وها نحن نشهد اللبنانيين يتموضعون خلف طوائفهم بعيداً عن كل بحث عقلاني في هوية جامعة، ودولة رعاية تؤسس لوطن قالوا إنه وجد وهم اليوم يبحثون عن تعريفاته.
– التواضع والترفع شرطان لمقاربة واقعيّة لفهم الحرب الأهليّة، بعيداً عن الفلسفة الغائية المحكومة بإثبات غاية فكريّة كسقف لكل تحليل، والمشهد المتكرر ببساطة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفي محطات عديدة، كعام 1920 وعام 1958 وعام 1975، يقول إنه مع كل تحوّل يستعدّ له الإقليم في مناخ دولي متغير، تعصف الرياح بلبنان لتنتهي بمشهد اصطفاف جماعاته السكانية الموزعة على جغرافيّته، وفقاً لهويات أهلية متصارعة، ظاهرها فهم مختلف للوطن وباطنها رفض التشارك في وطن، من جهة الشعور بالقلق الوجودي من موقع الضعف، وسعي لفرض هوية محددة للوطن من جهة الشعور بالغلبة، فيظهر الضعفاء انفصاليين ويظهر الأقوياء وحدويين، ولأنهم يتناوبون على مصادر القوة والضعف يتناوبون على صفة الانفصالية والوحدوية، واذا لم تكن القضية اللبنانيّة محسومة بالمسؤولية عن انفجار الحرب فهي غير قابلة للنقاش في العجز عن احتوائها، وما يعنيه هذا العجز من تحويل عناصر الجمع الى هوية طاغية ومهيمنة، وتحويل الهويات الطائفية الى مرتبة أدنى في رسم سلوك الجماعات اللبنانية، بحيث يظهر بوضوح أن الهويات الطائفية، هي الهويات الطاغية في رسم السلوك السياسيّ للجماعات الاجتماعية، سواء في مرحلة صعود مشروع الدولة او في مرحلة انحلالها، بحيث تكون الدولة مشروع تجميع لدويلات الطوائف على تقاسم العائد الريعيّ للدولة وأموالها، والدولة تنال أموالها لقاء تخديمها وتثبيتها لدور وظيفي تقرره المعادلات الدولية والإقليمية التي تستقر عليها الحال بعد الاهتزاز، وعند الاهتزاز يسقط الدور ويشح المال فتنتهي مبررات الانضواء في مشروع دولة واحدة، ويصعد الى الواجهة النزاع على أحجام وأوزان هذه الجماعات وحدود نفوذها بانتظار التسوية الدولية الإقليميّة الجديدة التي تكرس معادلة خارجية تعبر عنها توازنات داخلية لصيغة الدولة الجديدة.
– الأصل هنا يبقى في نسبة تحرّر الأفراد داخل كل جماعة اجتماعية تمثلها الطائفة من الرابط الطائفي كعامل سياسي لحساب رابط سياسي بديل، ونسبة التوازن داخل كل طائفة بين هؤلاء وبين الذين يقدّمون الرابط بالطائفة كجماعة سياسية على أي رابط من خارجها. وبقراءة المسار العام خلال قرن على الأقل، منذ إعلان لبنان الكبير يبدو غير قابل للنقاش أن هذه النسبة كانت وبقيت ولا تزال مختلة بشكل كاسح لحساب الرابط الطائفي على حساب الروابط التي تؤسس لجماعات سياسية عابرة للطوائف أو غير طائفية، كما يبدو واضحاً بالنسبة ذاتها أن الفترة الوحيدة التي كانت فيها هذه النسبة معرضة للإهتزاز لحساب روابط سياسية من خارج الطوائف، هي فترة أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، لكن بتحفظ مصدره ان بداية الاهتزاز كانت في البيئات الإسلامية الطائفية الإسلامية وليس في البيئات الطائفية المسيحية، وانها في هذه البيائات الطائفية الإسلامية كانت رغم الحضور الوازن للتيارات اليسارية والقومية روابط متماهية في كثير من الأحيان مع المشاعر او المحرّكات الطائفية في الخلفية المحددة للروابط، وليس خافياً أن المراحل التي عرفها لبنان السياسي تصدّرتها في كل مرة جماعة طائفية بعنوان رسم موقعها في التوازنات التي لحقتها، فولادة لبنان الكبير كدولة تجمع الطوائف كجماعات سياسية في مؤسسة سياسية مشتركة، تصدّرته الطائفة المارونية وتزامن مع صعود المشروع الغربي على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ومرحلة التسوية بين المشروع الغربي والصعود القوميّ في زمن جمال عبد الناصر رعتها مرحلة فؤاد شهاب وشارل حلو حتى انفجرت بعد رحيل عبد الناصر، وعبرت عنها بين حربي 1958 و1975 دولة فؤاد شهاب بتوازناتها الداخلية الجديدة، لتبدأ مرحلة عنوانها التجاذب بين مشاريع السلام مع كيان الاحتلال وصعود الحقبة السعودية وظهور دور سورية الممانع، ولهذا امتدت هذه المرحلة من حرب عام 1975 حتى عام 1990 وإطلاق مؤتمر مدريد للسلام، الذي رعى التسوية السورية السعودية ومعادلة السين سين التي جمعت مشروع المقاومة الذي تصدّرته الجماعة الشيعيّة، ومشروع تمويل الدولة تحت عنوان الإعمار الذي تصدّرته الجماعة السنية، في ظل غياب الجماعة المسيحية السياسية بين عامي 1990 و2005.
– منذ العام 2005 تعيش المنطقة مرحلة شبيهة بتلك التي سادت بين عامي 1975 و1990، اي مرحلة خلط الأوراق الدولي والإقليمي، وبالتالي سقوط الدور الوظيفي في الإقليم للدولة التي تجمع الجماعات الطائفية، وبالتالي سقوط مبرر تمويلها، ولذلك يعيش لبنان حرباً أهلية باردة تتخذ أشكالاً متعددة، رغم وجود هياكل لمؤسسات الدولة الجامعة، في ظل صراع محتدم على الهوية والأدوار والأوزان، بين الطوائف وداخلها، بالتناسب مع الصراع المحتدم بين المحاور الإقليمية والدولية وداخلها، وقبل أن ينجلي غبار هذه الصراعات عن تسويات تعيد إنتاج الدور الوظيفي للدولة اللبنانية لا يبدو في الأفق من أمل لأكثر من منع تحول الحرب الباردة الى حرب حارة وساخنة، منع حدوثها عدم وجود أي آمال داخلية او خارجية بمساهماتها في تعديل التوازنات، ورسم الأوزان، بحيث باتت كلفتها أعلى من عائدتها المتوقعة، ومخاطرها مع وجود النازحين السوريين وظواهر التطرف التكفيريّ عنصر كبح للمخاطرة بالحرب، من موقع الحرص على الأمن الأوروبي وليس الأمن اللبناني، وفي السياق فشلت انتفاضة 17 تشرين رغم كل التباهي والمبالغة بإطلاق مناخ يبشر بمغادرة غالبية لبنانية وازنة للروابط الطائفية كأساس للاصطفاف السياسي، وبقي الاختلال كاسحاً داخل كل طائفة لصالح غالبية تحركها الروابط الطائفية وتحدد تموضعها السياسي وبالمناسبة مخطئ مَن يعتقد بأن الفساد يأتي استغلالاً فردياً للنفوذ السياسي، بقدر ما هو أصل النظام السياسي القائم على الريع وإعادة توزيعه وفقاً لمنظومة قائمة أصلاً على قاعدة إعادة إنتاج الرابط الطائفي من خلال الخدمات والتوظيف بالنسبة لقاعدة المجتمع، وتوزيع الصفقات والتعهدات وتقاسم التراخيص والامتيازات للمصارف وتشغيل الهاتف والكهرباء والمعامل الكبرى وصفقات الشراء العام والمحروقات، وفوائد الودائع وسندات الدين، بالنسبة للطبقات العليا في الطوائف، وتوزع المناصب والإدارات بالنسبة للطبقات الوسطى فيها، وكل ما تنتجه التسويات الخارجية والداخلية هو إعادة توزيع نسب تقاسم هذه العائدات التي تتمركز حول مشروع الدولة الجامعة للطوائف. كما هو مخطئ أيضاً من يتخيّل ان الفقر هو طريق حتمي للثورة، فالفقر يضعف الدولة كمصدر للخدمات والرعاية وعنصر تعزيز للطوائف كبدائل فورية حاضرة، وضعف فكرة الدولة الواحدة ينشط اللجوء إلى الطائفة كمصدر للحماية والأمان الاجتماعي بمعناهما الفردي والجماعي.
– في الأزمات الكبرى يجدّد نظام الحرب الأهلية نفسه من خلال معادلتين، الأولى سعر صرف العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، حيث تتجمّد المداخيل التي كانت تعوّم الدولة الجامعة، فتنهار العملة الوطنية، ويتخفف النظام من أعباء القيمة الفعلية لأعباء المالية العامة ومن قيمة مكتسبات كانت قد حققتها الطبقات الفقيرة، فيتيح انهيار القدرة الشرائية لليرة تقويم الدين العام والإنفاق العام والمداخيل المحددة بالليرة، وما لحقها من زيادات تراكمية في مراحل صعود النظام الذي أنتجته تسوية سابقة، وفقاً لسعر الصرف فتنخفض قيمتها الفعلية الى نسب شبه صفريّة، والثانية هي الهجرات الكثيفة التي تنتج عن التراجع الاقتصادي وضعف الفرص وانعدام الأمل، ما وفر ضخ المزيد من المال الأجنبي ضمن منظومات التكافل الاجتماعيّ الذي تشكل الطوائف وعاءه الأكبر، كما توفر تخفف المجتمع من فواتير استهلاك كبرى هي غالباً مستوردة، فيتشكل الاقتصاد السياسيّ للتسوية المقبلة على أرضية تزينها عملية نهوض مرحلي لبعض الصناعات والزراعات، والمهن الحرة، التي لا تلبث أن تندثر مع الازدهار الريعيّ المقبل، في كل مرة، ولا يجب أن يتفاءل أحد بالحديث عن ثروات النفط والغاز كأساس اقتصادي لبناء دولة. فهي عموماً تعزز الحاجة لنظام التقاسم الخارجي والداخلي للعائدات من جهة، وتشكل تدعيماً لمفهوم نظام الريع من جهة مقابلة، كما تقول غالبية تجارب الدول الغنية بالموارد النفطية.
– الراغبون والجادون بتغيير يخرج بلبنان من نظام الحرب الأهليّة، مطالبون، بعد إسقاط الرهان على الفقر كمدخل للثورة، وبعد إسقاط فرضية مكافحة الفساد بمعزل عن مشروع كامل لنظام جديد، بمغادرة وهمين، الوهم الأول هو القدرة على التغيير بتجيير قوى منظمة على أساس طائفي لصالح التغيير، وإيجاد أعذار وفتاوى من نوع طوائف ظالمة وطوائف مظلومة كما فعل بعض اليسار في حرب العام 1975، او تحت شعار أن الخيار اللاطائفي هو الأصل بالنسبة لبعض التشكيلات الطائفية، وأنها وجدت نفسها في نظام طائفيّ، ومَن حضر السوق باع واشترى. فالحقيقة الواضحة أن إدخال عنصر الفك والتركيب على اصطفافات التشكيلات التي تنتظم عبرها الطوائف سياسياً، لن يتحقق الا عندما تبدأ قوة غير طائفية بالكامل نصاً وتنظيماً وتكويناً، بالتحول الى قوة وازنة داخل البيئة الطائفية لهذه التشكيلات. أما الوهم الثاني فهو خوض معارك مفتعلة مع القوى التي تمثل تشكيلات تنتظم الطوائف عبرها بصفتها العدو المطلوب هزيمته، والدخول في لعبة شيطنة هذه القوى باعتبار ذلك مفتاح زرع الوعي الجديد الذي يفتح باب التغيير. فالمفتاح يبقى في عقول المواطنين الأفراد وحسم خياراتهم بالخروج من جلباب الانتظام الطائفي، لصالح خيارات سياسية حزبية عاقلة وناضجة وراشدة عابرة للطوائف.
– بالنظر لتتابع حلقات السلسلة الطائفية في لعب الأدوار القيادية في نظام الطوائف وفقاً لمعادلات المسؤوليات المتصلة بهوية النظام ببعديها الداخلي والإقليمي، يبدو دور المقاومة الصاعد مفتوحاً على المزيد من الزمن، وتبدو البيئة الطائفية المحيطة بها تكويناً، والعقيدة الدينية الناظمة للقوة المحورية في المقاومة التي يمثلها حزب الله، ودرجة انتباه الحزب للبعد الاجتماعي لبيئته، ما يعني ان البيئة الشيعية ستكون شبه مغلقة حتى إشعار آخر على نمو أطر ومشاريع بديلة، لأن أي قوى جديدة صاعدة لن تستطيع تجاوز التفوق الموضوعي لحزب الله في المقاومة، وإن كان خيارها معاكساً للمقاومة فالفشل الشامل نهايتها، فيما يبدو التحريض لكسر تماسك هذه البيئة مع قيادتها تخديماً لمشروع أجنبي مشبوه. وهكذا يصير المشروع اللاطائفي الغائب عملياً كقوة تأثير فاعلة وكلاعب محوريّ على الساحة السياسية، موضوع انتباه لفرص متاحة في الفراغ السياسي الذي تعيشه الطوائف الأخرى، ولكن على قاعدة التساكن الإلزامي مع دورة جديدة للنظام الطائفي، أقل توحشاً وأكثر وطنية، تنتجها تسوية جديدة بعد الفوز باستبعاد خطر الحرب الأهلية الساخنة، رغم بقاء الحرب الأهلية الباردة، وحيث التطلع لدور إقليمي والاطمئنان للكثرة العددية يتيحان الاطمئنان إلى أن لا تطلعات لدى حزب الله لصرف فائض قوته الذي ستحمل التسوية الجديدة اعترافاً به، لصالح تعزيز مكانة طائفته في النظام السياسي الطائفي، بل لصالح قبوله بصيغة أقل توحشاً للنظام وأكثر مأسسة وأنسنة، محورها قانون انتخاب أكثر تمثيلاً عبر النسبية والدوائر الكبرى وبناء القضاء المستقل، وتعزيز المساءلة والمحاسبة، ضمن مراهنة على نظام يأخذ من الطائفية تقديم الضمانات الوجودية، ويزيل منها أبرز مصادر الحرب الأهلية، مع التأكيد على حقيقة ما تقوله التجارب من أن المراهنات السابقة على مشاريع طائفية صاعدة لم تنجح رغم حسن نيات البدايات.