نشأ «الإخوان» علىالعنف وسعوا إلى النيل من مشروع النهضة وتحرّر المرأة والنضال الاجتماعيّ
إبّان تولّي جماعة الإخوان المسلمين زمام الحكم في مصر، فوجئ أهالي مدينة المنصورة في دلتا مصر بإلباس بعض المجهولين تمثال سيدة الغناء العربي في المدينة نقاباً. هذا الحدث كان بمثابة رسالة، سلبية ويا للأسف، تبعث على القلق في بداية حكم «الإخوان»، خاصّة بعد استحضار تجربة طالبان مع تماثيل بودا في مدينة باميان في باكستان، ونسفها بالديناميت. قد تبدو حادثة تمثال أم كلثوم اختزالاً لعلاقة جماعة «الإخوان» بالحداثة وموقفها مِن الفن بصفة عامة.
يلتقط الكاتب المصري هشام الخشن في روايته «غرافيت» الصّادرة لدى «الدار العربية للكتاب» في القاهرة أدرجت ضمن القائمة الطويلة لجائزة Booker العربية، 2015 ، جوهر الصّراع الذي نَشَأَ مع بداية حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بين الرجعية التي يثيرونها والحداثة، ويقدّم مروية سردية يمتزج فيها التاريخيّ بالواقعيّ والخياليّ معاً، في توليفة نادرة قلّما تجتمع في عمل سردي، إذ يعود إلى التاريخ ويتناول منه حدثين جوهريين يعود كلاهما إلى عام 1928 وما يمثِّله من علامة فارقة في الوجدان المصري، فعامذاك أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين.
كما يستحضر من التاريخ ما يقابله في الأهمية، وإن كان يناقضه على مستوى الأيديولوجيا، قَرار وزارة المعارف المصرية آنذاك بإرسال اثنتي عشرة فتاة لاستكمال دراستهن في فرنسا وإنكلترا. بهذا الاختيار الدقيق للحدثين المتناقضين، يضع الكاتب المرأة في مواجهة «الإخوان»، ليخلصَ في النهاية إلى نتيجة صعبة هي أن المرأة استطاعت إلى حدّ ما تحرير نفسها من القيود المكَبّلَة لها.
يتطرّق الكاتب إلى نشأة جماعة «الإخوان المسلمين» وإيديولوجيتها المؤسّسة، بل يميّز بين المفاهيم حول جماعة «الإخوان» الحصافية الشاذلية، وجماعة «الإخوان» التي كان يترأسها البنّا، موضحاً الأهداف التي نشأت الجمعية لأجلها، وصولاً إلى تحوّلها إلى العنف والاغتيالات والتفجيرات وإقصاء مَن يخالفها حتى ولو كان منها أحمد السكري نموذجاً ، ساعياً إلى تفكيك مفاهيمها المؤسّسة، ومقوّضاً وناقداً إيديولوجيتها المتناقضة.
في الجانب المقابل، تتحدّث الرواية عن مشروع النهضة الذي سعت إليه الدولة بإرسال البعثات، ما أثمر دعوات تحرير المرأة ونضالها لنيل حريتها في الاختيار، مثلما عبّرت درية شفيق عن موقفها أمام رئيس البعثة حين أرادت تغيير تخصّصها إلى الفلسفة، وإصرارها على تصعيد الموقف إلى طه حسين حتى أذعن لطلبها، وفي الانتخاب قادت المسيرة النسائيّة من قاعة إيوارت في الجامعة الأميركية إلى البرلمان لتدافع عن حقّ تمثيل المرأة في البرلمان.
مع تلك الصّورة الإيجابية كانت هناك صورة المرأة السلبية التي كانت «بهيجة» ابنة عمّ نوال نموذجاً واضحاً لها، فهي استسلمت للزواج وتربية الأطفال ولأن تكون ربة منزل، وذلك ما تكرّر، ويا للأسف، مع نوال إثر عودتها، ويعتبر خذلاناً لرهان أبيها عليها مذ تحدّى إرادة العائلة لاستكمال تعليمها في المدرسة الفرنسية، ثمّ دفعها عن طريق أصدقائه الأجانب في البورصة لتكونَ ضمن أعضاء البعثة، ومخالفته رأي الأم الرافض فكرة الذهاب. لم تختلف عن بهيجة في شيء لدى عودتها من الدراسة في السوربون وتعرّفها إلى ثقافة مختلفة، وكانت متأثرة بشخصية صديقتها درية المتمرّدة التي من فرط إيمانها بأفعالها كرّرتها في بنتها وسمّتها درية، فتستسلم لرأي الجدة والعمّ وتتزوج من كامل ابن عمها المستهتر، وتهمل هوايتها الرسم بعدما سخر منها وضربها، وتذعن لرفضهم العمل كمعلمة في المدرسة السنية، أو حتى كمعلّمة رسم في مدرسة التربية الفنيّة.
كأنّ المؤلف يريد أن يصل إلى نتيجة مفادها أنّ الفرق بين درية شفيق في تحرّرها وانطلاقها ونوال ليس في توافر فرصة التحرّر بالتعليم والسّفر إنما يكمن في فروق البيئة والتربية التي مالت لدى نوال إلى المحافظة.
لا يستعيد الكاتب تاريخاً مجرّداً مع أهمية حوادثه الماثلة في تأسيس الجماعة، ورحلة الفتيات للبعثة، إنما يستعير عصراً مضى عليه أكثر من 86 عاماً بكامل حمولته الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وبتناقضاته كلّها أيضاً المرأة وقضية الحرية ورفض الرجل لها . وفي هذه الاستعادة تحضر صورة مصر التي كانت تماثل قطعة من أوروبا بالشوارع المنظّمَة والنظيفة والمباني الجميلة في المبتديان والفلكي والخازندار والعتبة، والمحلات المشهورة التي كانت تزدان بها الشوارع مثل صدناوي وجروبي. كما يستدعي تراثها الثقافيّ وأزياء الثلاثينات، الفساتين والقبعات للفتيات، والبدلة والطربوش للرّجال، ووسائل المواصلات، والمفردات السائدة آنذاك الخواجة، نينة، مدموازيل، أفندي، بك… ، وغيرها من تفاصيل ذاك العصر. وبهذه الاستعادة كأن السارد يقدّم مرثية إلى مصر الحاضر بما تعانيه من ركود وتناحر سياسي وفكري وجدب ثقافي، وفوق ذلك إقصاء للمخَالف والمعارض في الرأي وليس في العقيدة.
يقسّم الكاتب النص وحدات سردية أشبه باللوحات الثلاثين ويتناول في كل منها شخصية من الشخوص أو حدثا من الحوادث التي يتشكّل منها النص. كما يعتمد على تقنية قطع الحدث للتشويق، وهذا كله يأتي عبر راوٍ غائب يعطي نفسه ـ في بعض الأحيان ـ مساحة تسمح له بالوصف الخارجي، ويتماهى في أحيان أخرى مع الشخصية ليعبّر عن إيديولوجيته المـنحازة إلى تحرّر المرأة والرافضة فكر «الجماعة» ومواقفها. كما يميل السرد إلى الوصف في كثير من المواضع، ويعتمد أحيانا على التوثيق على ما هو ظاهر في الهوامش المتعدّدة.
تتضافر رسائل عديدة داخل النّص تساهم جميعها في تقديم صورة للواقع الذي ترصده الرواية، بينها خطاب الرسائل الذي يشغل حيزاً مهمّاً بدءا برسالة التصدير من نوال إلى أبيها عن أحوالها في فرنسا، مروراً برسالة رحيل ديمتريا إلى أختها إيلينا، ثمّ رسالة الأب إلى نوال يخبرها فيها بانهيار البورصة وأثر ذلك في وضع عمّها، كذلك رسالة البوليس السياسيّ عن تهديدات «الإخوان» وإحداث الاضطرابات، إلى مقتطف من مقالة حسن البنا «صناعة الموت» في مجلة «النذير» وتضمين لأغنية من أغاني أم كلثوم في فيلم «فاطمة».
هذا التنوّع أكسب النصّ زخماً، فضلاً عن التعددية التي برزت في النص بتعدّدية اللغة والتعارض على مستوى الفكرة وأيضاً على مستوى الشخوص، وبعضها عبر حضوره الواقعي مثل أحمد السكّري وحسن البنا ولبيبة أحمد أوّل رئيسة لـ»الأخوات المسلمات» وابنتها الفنانة زينب عبده وهدى شعراوي ودرية شفيق.
الجدير ذكره أن الكاتب هشام الخشن مهندس مدني دخل مجال السّرد متأخّراً وأصدر في فترة وجيزة ما نحو أربعة أعمال بين قصة ورواية مثل «حكايات مصرية جدا» 2010 ، و«دويتو» 2013 ، و«ما وراء الأبواب» و«7 أيام في التحرير» عام 2011 و«آدم المصري» 2013 . وتكشف هذه الكتابة الغزيرة والمتدفقة عن موهبة مصقولة بوعي لآليات الكتابة وطرائق التشكيل، كما تكشف عن خلفية ثقافية عريضة انعكست في الرواية الأخيرة «غرافيت»، خاصة في مجال الفن والإلمام بمدارسه المختلفة.