عبدالقادر الجنابي ينتقد المثقّفين العرب في كتابه «النضال ضدّ عبادة الماضي»
يدين كتاب «النضال ضد عبادة الماضي» للشاعر والمترجم عبدالقادر الجنابي الصادر حديثاً لدى «المجلس القومي للترجمة» في القاهرة، الحركة الثقافية العربية في العصر الحديث إبداعاً وفكراً، مؤكداً أنها لم تنجز على مدار تاريخها حركة طليعية أو مستقبلية إبداعياً أو فكرياً التف حولها شعراؤها وساردوها ومفكروها، واستطاعوا إحداث قطيعة مع الماضي، فظلت عبادة الماضي تفرض وجودها على الرؤى الإبداعية الشعرية والسردية والفكرية كافة حتى الآن.
الإدانة تتمّ من خلال رؤية تحليلية إبداعية عميقة للاتجاهات الطليعية الروسية والمستقبلية الإيطالية بين عامي 1910 و1930، حتى أنه لا يشير إلى الثقافة العربية إلا في فقرة في سياق مقدمة الكتاب حين يتساءل: «هل يمكن للثقافة العربية أن تدعي بأنها عرفت شيئاً مماثلاً في تاريخها الحديث ـ يقصد البيانات الطليعية والمسيتقبلية التي تعبر عن الحداثة ـ وأن لها حقاً، بياناً وحركة طليعية؟ اقرأ بيانات المستقبلية الإيطالية، وعندها أرني أيها القارئ الكريم بياناً عربياً واحداً من بين عشرات بيانات الحداثة العربية، له لهجة العنف الصائبة هذه التي لولاها لما كانت ثمة حداثة أوروبية، أو ينطوي على ربع هذه المطالب العميقة في معظم تشخيصاتها التي نقلت الثقافة العلمية من الاتباع إلى الإبداع، من العاج الذهبي إلى منعطفات الضجيج المديني، من البلاط إلى الأسفلت. ذلك لأن الحداثة الحقيقية تسعى في كل نضالها ضد عبادة الفرد للماضي من أجل ألا تكون الحرية مجرد مفهوم وإنما أن تصبح هي الأمر الواقع المتنامي بإطراد، وحتى لو اتفقنا على أن هناك طليعة أديبة عربية، فإنها بالتأكيد تيار اكتشافي وليس ابتكارياً أي طليعياً. إذ للطليعة أصالة ألا وهي: البدء من نقطة الصفر. ولادة بلا أسلاف على حد قول روزاليند كروس».
إذن يكاشف الكتاب المبدعين والمفكرين العرب بمصيبتهم التي تتجلى كوارثها اليوم على امتداد المشهد العربي، في الإرهابيين الذين استطاعوا تمكين الماضي من حكم الحاضر والمستقبل، إذ يقول لهم بهدوء وروية ومن دون افتعال أو انفعال إنكم لم تنجزوا شيئاً في الخروج على الماضي وتراثه العقيم الملوث، والدليل انظروا إلى الحركات الطليعية والمستقبلية الروسية والغربية وكيف استطاعت الانتقال من الاتباع إلى الإبداع، وأن تبني حداثة مغايرة من جيل إلى جيل.
على امتداد الكتاب نرى بحسب للجنابي «كم يشكل احتقار الماضي مبدأ جوهرياً في الحركات الطليعية للقرن العشرين. كما إن النقطة الوحيدة التي يلتقي فيها «البيان الشيوعي» و«بيان المستقبلية»، هي أن كليهما ينسف الحدود الجغرافية المحددة انزياحاً من انتمائية المركز إلى لا انتمائية أممية، فالأول باسم الأممية البروليتارية، والثاني باسم التخلص من ماضي الأمم إلى مستقبل كوني. كلاهما حاول أن يقلب تجربة اللامركزية، التشريد والنزوح، إلى أشكال من الأممية، وهذه الصفة باتت جزءاً أساسياً من من لغة البيانات الطليعية التي بدت بعد «بيان المستقبلية» الحجر الأساسي للطليعة الأدبية. ومن الفروق الأساسية أن «البيان الشيوعي» يقدم نفسه غاية بذاتها. كان الإبداع يقاس من خلال ميزان الماضي، لكن مع صعود البيان الطليعي من خلال المستقبلية، بات يقاس من خلال حضوره المفاجئ من لحظة انبثاقه وما يحمله من استقلالية آنية».
يفتتح الجنابي كتابه بمقتطفات من أقوال كبار الشعراء والمفكرين والفلاسفة التي تحمل جميعها رفضاً للماضي، ليبدأ بعد ذلك «شظايا على سبيل التقديم» متوقفاً عند بودلير ومشيراً إلى مقالته «رسام الحياة الحديثة» التي وضع ونحت فيها لبنة مفهوم الحداثة، ثم يضعنا مع أول ظهور لكلمة «الطليعة» في دراسة لإتيان باسكيهفي أواخر القرن السادس عشر، ثم ظهورها في القرن التاسع عشر لدى أحد أتباع حركة سان سيمون، «فانزاح المعنى المجازي إلى مجال الوعي، وعي الفنان بأنه في مقدمة زمنه وتقع عليه مسؤولية القيادة في التثقيف، وهذه المقاربة كان لها صداها في النظرية الماركسية اللينينية حيث الحزب هو الطليعة الثورية للبروليتاريا.
غير أن الاختلاف جوهري بين هذا الاستخدام السياسي لكلمة الطليعة والاستخدام الفني الأدبي الذي بدأ بعد ظهور بيان مارينيتي. ففي المفهوم السياسي تعني «الطليعة» أن يخضع الفن نفسه لمطالب الثوريين السياسيين وحاجاتهم، بينما تعني في المفهوم المستقبلي والحركات التي تلت الإصرار على طاقة الفن الثورية على نحو مستقل.
يقول سان سيمون مثلاً: «في مهمة الفنانين العظيمة هذه سيبدأ رجال المخيلة المسيرة، سيأخذون العصر الذهبي من الماضي ويمنحونه هدية لأجيال المستقبل». بينما الحجر الأساس في الطليعة الأدبية والفنية في نظر مارينيتي هو ردم تراث الماضي وعصره الذهبي». ويوضح الجنابي أن مارتينيتي كشف في بيانه عام 1914 «أهم العناصر التي تقوم عليها الجمالية الماضوية الرومانسية والرمزية والانحلالية ، وعبادة الماضي في الثقافة والحياة، والعناصر هي: المرأة القاتلة، ضوء القمر، الذكرى، الحنين، انعدام الأخلاق، ضباب أسطورة قديمة، الطريف، الفتنة الغربية التي تحدثها الأماكن البعيدة، الغامض، الوحشة، الفوضى المبرقشة، الريفية، الغسق المظلل، التداعي، الملل، زنجاز السنين الوسخ، تفتت الأطلال، رائحة العفونة، ميل إلى التعفن، التشاؤم، السل، الانتحار، ملاطفات، الاحتضار، جماليات الفشل، عبادة الموت…
في وجه هذه الأسس تطرح أسس اليوم مع ولادة حسية جمالية جديدة تدعى «البهاء الهندسي الميكانيكي» وعناصرها الرئيسية هي: الشمس المضرمة ثانية بالإرادة، النسيان الصحي، الأمل، الرغبة، العابر، القوة الملجمة، السرعة، الضوء، الإرادة، النظام، الانضباط، المنهج، غريزة الإنسان مضاعفاً بالمحرك، روح المتروبول، التفاؤل الشكس الذي نحصل عليه بالتربية البدنية والرياضة، المرأة الذكية لذة، خصب، شؤون ، مخيلة بلا سلك، الوجود في كل مكان، الاقتضاب والتزامن الذي يميز السياحة، القضايا الكبرى، الصحافة، صبوة النجاح، الرقم القياسي، تقليد الكهرباء والآلة على نحو تحمسي، الإيجاز الأساسي والتركيب، دقة المسننات والأفكار المزيتة، تلاقي الطاقات وهي تتقارب بمسيار واحد انتصاري.
يضيف الجنابي: «ليظهر غيّوم أبولينير احتقاره مبدأ عبادة الماضي أصدر في يوم الجائزة الكبرى 29 حزيران 1913 بيانا مستقبلياً استقزازياً ضد التراث أثار موجة من النقاشات الحادة، إذ كان البيان على شكل قسمين: في القسم الأعلى وضع أبولينير تحت عنوان بحرف أسود كبير «براز على»: أسماء حركات الماضي وكبار شخصياته الأدبية والفنية، وبينها: فاغنر، بودلير، هوغو، غوته، دانتي، شكسبير، النقاد، الروحانيون، الواقعيون، الأكاديميات، الرومانسية، المؤرخون، الأطلال، تولستوي، ويتمان، آلن بو، القواميس…إلخ.
وفي القسم الأسفل، وضع تحت عنوان بحرف أسود كبير «وردة إلى»: أسماء كتاب وشعراء ورسامين معاصرين له، بينهم بيكاسو، ماكس جاكوب، مارينيتي، مارسيل دوشان، ليجيه، كاندينسكي، سندراس، جوف، أندريه سالمون، بازيتشي….
يؤرخ الجنابي ويحلل ويناقش وينتقد عشرات البيانات والوثائق والأشعار التي أصدرها الطليعيون والمستقبليون الروس الذين يعتبرون اليوم أفضل ما أنتجه الأدب الروسي في القرن العشرين: مايكوفسكي، خليبنيكوف، كروتشيونيخ، باسترناك، يَسينين، شخلوفسكي، زامياتين، تروتسكي، فيدنسكي، زامياتين.. إلخ، كاشفاً أن المبدعين الروس الجدد في مطلع القرن العشرين «شعروا بالضيق من قوانين مرسومة بينما يعيش الواقع اليومي غليان تجديد وينتج أدواته هو لتحقيق تطوره. كما أن تطور الآلات أخذت تنتج علاقات اجتماعية جديدة تحتاج إلى مواكبة جديدة تمام الجدة. ولتحقيق ذلك كان عليهم أن يشنوا أولا حرباً على الشعر الرمزي، معلنين أن الشعر لا يكمن في الرموز فحسب، خاصة الرموز الدينية، إنما يجب أن يبحث عنه في التجربة الحية في الشارع والمعمل والمدينة، وأخذت تتجلى هذه النزعة أولاً عبر شعراء منفردين، ثم راحت تتطور إلى اتجاهات بينها اتجاه «الذرووية» ـ من الذروة ـ تحت قيادة نيكولاي غوميليوف وأنا أخماتوفا وأوسيب ماندلشتام، ويدعون إلى تحديث الكلاسيكية بشعر صاف متخلص من الرموز يتحلى بصور صافية ومقتصدة ومستلة من الواقع اليومي، ثم ظهر اتجاه «المستقبلية ـ الأنا» الذي كان أول من استخدم كلمة «مستقبلية». وإذا كانت حركة «الذرووية» الشكل الحديث للكلاسيكية تهتم بالمهارة الشعرية وجماليات الماضي، فإن اتجاه «المستقبلية ـ الأنا» تحت قيادة إيغور سفيريانين، كان محاولة للإفادة من النقد المستقبلي الإيطالي للرمزية، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الأسلوب الشكلي الروسي للشعر الرمزي.
غير جميع تلك هذه المحاولات بقيت في موقع المتأثر والمقلد والمنحصر في التجديد المحافظ على جوهر الرمزية الروسية في مفهوم الشعر، بحيث إن محاولتهم في نحت كلمات جديدة كانت وسائط لأغراض إيقاعية ونوعاً من التسامي فحسب. لكنّ تيار «أهليا ـ المستقبلية التكعيبية» هو الذي سيترأس غليان الانتفاضة الشعرية على الرمزية وعلى التراث وعلى أيّ عودة إلى الماضي، منطلقاً من الشارع المضطرب بالحركة والشغب والأنقاض والأحجار، وليس من الصالة الأدبية المؤثّثة بكراس نظيفة يتصدرها دوماً المنبر وجوقة الأدباء الرسميين. ويضيف الجنابي: «ناضل المستقبلانيون لأجل شعرية قائمة على المفاجأة، لكن لا على المفاجأة مع سلامة النحو، إنما شعرية ذات لغة غاضبة تتجلى أكثر كل ما حذفنا الفاعل، أو المفعول أو أجزاء من الجملة، وتكون للأصوات المعزولة دلالة سيميائية. لذا كانت أعمالهم التجريبية الأولى ممراً إلى سوبرماتية ماليفيتش حيث الأداة عوض الأسلوب في الرسم، وأرضاً نمت فيها اللبنة الأولى لتيار نقدي سيعرف في ما بعد بـ «الشكلانيين الروس» حيث علينا أن نفهم أن «للأدب قدرة على جعلنا نرى العالم من جديد، كما اكتشف عالم الفلك سابقاً أن الأرض ليست سوى كوكب بين كواكب عديدة» على ما أوضح جاكوبسن»، يرى الجنابي أن المستقبليين الروس راحوا ينظرون إلى المستقبلية كتحقيق شمولي لروسيا الفريدة على عكس مستقبلية مارينيتي التي كانت تحصل في إطار إبداعي، محافظة على استقلالها الشعري، حتى في لحظات تواطؤها مع الواقع الفاشستي. لم يستطع المستقبليون الروس التخلص من شبح الشمولية الغائر في مظانهم السحيقة، رغم جميع محاولاتهم لهدم معالم الماضي الروسي كلها. ظلت الشمولية السلافية تتربص بثورتهم التي شنوها لخلق نظام يتصالح فيه الفني والسياسي، الجماعي والفردي، النثري والشعري. وكان أول انتصار من كل شائبة إيطالية وغربية وإذاعتها بوصفها منتجاً فريداً من منتجات العظمة السلافية، بحيث أن بعض تصريحاتهم ومقالاتهم تضمنت شتائم للغرب ومدحاً للانتماء السلافي. مثلاً في بيان الإشعاعية كتب الرسام لايونوفا «عاش الانتماء القومي السلافي… فليسقط الغرب».