أنسنَة هوية المواطنة

نظام مارديني

كيف نؤنسن مفهوم المواطنة؟ وهل هذه الأنسنةّ ناتج أنسنة مفهوم الهوية؟ سؤال يتردد كثيراً في مرحلة التحولات التي تعيشها المنطقة الغنية بالجماعات الإثنية والمذهبية. وسؤال الهوية هنا ليس ثابتاً إنما يتحول ويتغير تبعاً لتحول الواقع الاجتماعي لكل مجتمع من المجتمعات، وقد أصبح داخل كل هوية هويات متعددة ذات مستويات مختلفة فهي ليست معطى قبلي، بل الإنسان هو الذي يخلقها وفق صيرورة التحول الذي يعيشه المجتمع، أيُ مجتمع. غير أن الهوية لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، ولا يمكن لأي مجموعة اجتماعية أن تصنع ما بدا لها من هوية.

لا يمكن النظر في موضوع الهوية من دون أن نبحث عن المكان باعتباره وعاءً للتاريخ الذي يساهم في تكوين هوية الجماعة عبر الثلاثية المقدسة: المكان/ الأرض، والإنسان والزمان، وتفاعلها الذي ينتج اللغة والعادات والتقاليد والديانات والتراث، كعوامل ناتجة من مجرى تطور المجتمع في ذاته. وهذا يعيدنا إلى مفهوم الهوية عبر التأكيد بأن الجماعات البشرية تتفاعل في إطار أمكنتها وعبرها إلى مجالها الحيوي.

المكان، إذن، دالة للإنسان والمجتمع، ودالة للسلطة، ولشكل العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، ولنمط الإنتاج القائم، ولطبيعة معتقدات الناس وقيمهم وعاداتهم.

ولأن المواطنة، مفهوم قانوني وسياسي، فإن بعده القانوني يرتكز على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات من دون تمييز في الجنس والعرق والدين، وتشكل العدالة بمعاييرها الدولية أساس إدارة المؤسسات.

أما البعد السياسي فهو الحق في المشاركة في تقرير شؤون المجتمع عن طريق الانتخابات وممارسة الحريات، في ظل مناخ اجتماعي مشجع وداعم للمشاركة مع الآخر أفراداً ومؤسسات. وتشكل الحقوق والواجبات آليات عمل المواطن، والمشاركة في أبعادها سلوك ايجابي واقعي شامل متكامل يسعى إلى بلورة هدف ووسيلة، ويؤكد الدور الفاعل للمواطن في إدارة مفاصل الدولة عبر الدخول السليم في خضم العملية الديمقراطية التعبيرية التي يجب أن ترتكز على الهوية السورية كهوية رئيسية وجامعة لمكونات المجتمع كافة.

إن المواطنة، وفضلاً عن بعديها القانوني والسياسي، هي مفهوم معنوي يؤكد الارتباط بالمكان الذي يجد فيه الانسان ذاته ويشعر بالحاجة إليه في تلبية مستلزمات وجوده، ويعبر من خلاله عن انتمائه الى المكان / الدولة كبديل من الانتماء الى القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو الإثنية.

لا شك في أن مستقبل هويتنا وسؤال المواطنة مطروحان أمام معطيات غامضة بدأت تفرزها وقائع الصراع المرعب والمدمر بين قوى معروفة بمرجعياتها وشراهتها و»مقدسها» المفترض، قوى غامضة بأوهامها وألعابها النارية. بين مرجعيات حداثوية ومرجعيات أصولية. بين مهيمنات مركزية ومهيمنات ثانوية. بين قوى عالمية ظالمة ومتعالية، وقوى مستلبة تعاني مازوشية هزائمها القديمة وأنماط ثقافاتها المهمشة.

يوم اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789 لم تكن حدثاً تاريخياً ينادي بـمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة فحسب، بل أرست هوية مشتركة جمعية تنبثق من المكان وتمتزج بمشاعره وتشكل معه المنظومة الأساسية للبناء السليم والجامع للشعب المتنوع والمتفرع في ولاءاته وانتماءاته وعقائده، فأسست لفكرة المواطن بل كان من أهم انجازاتها التحول من التخاطب بمفردة «مسيو» الى مفردة «مواطن»، وهو المنجز السياسي الحقيقي الذي اكتشفه الفرنسيون ليقدموه الى العالم بعدما اكتست باريس بألوانها القانية.

لم تكن فكرة المواطنة إنجازاً نظرياً للفرنسيين قدمه فلاسفة ثورتهم ومفكروها مثل شارل مونتسكيو وجان جاك روسو، إذ سبقهم الكثير من المفكرين والفلاسفة، لكنهم بالتأكيد الأكثر دعماً لمفهوم المواطن، فالعقد الاجتماعي هو السلوك العملي في تفعيل مفهوم المواطنة بعدما أنطلق به من المنظومة المعنوية المكتنزة بالعلاقة بالمكان ومشاعره وارتباطاته الى الواقع القانوني في ميدان الحقوق والواجبات والعلاقات بين الدولة والفرد والحكام.

أرست الدول ذات التجربة العريقة في الديمقراطية وعبر ممارستها دعائم أسس الدولة التي تحظى بالمشروعية، من خلال الإقرار في دساتيرها بحق المواطنة، وبواسطة شعاراتها التي تنوعت وتعددت لتؤكد في مجملها على أن النسغ المغذي لوجود هذه الدول هو الهوية الجامعة.

ما نشهده اليوم من هنات وتباين بين بعض المكونات السورية لا يعني أن النسيج الاجتماعي لهذا المجتمع أصابه الاهتراء، بل يكمن الأمر في الصدمة العنيفة، والهول الكبير الذي تعرض له نتيجة للتحول التاريخي المفاجئ، وطبيعة التناقض الذي حصل بين حقبتي ما قبل آذار 2011 وما بعد آذار 2011، لكن بزوال تلك الآثار ورفع تلك التراكمات سوف تختفي العديد من التباينات. وإذا أريد لهذا النسيج أن يستمر بلحمته فليس أمام مكوناته إلا التمسك بتلك الثوابت الوطنية والحضارية الموروثة التي حافظت على هذه اللــُحمة، وتمثلت باحترام تلك التعددية، وعدم التقاطع معها تحت أي مبرر أو ذريعة من قبل جميع المكونات المجتمعية، وهذا بطبيعة الحال لن يتم إلا بعد أن تسود لغة التسامح، واحترام حرية المُعتقد، وتقبل الآخر.

بهذا المعنى، يقدم إلينا مفهوم المواطنة إطاراً قانونياً، وثقافياً، واجتماعياً للتعايش الإيجابي بين مواطنين متنوعين ثقافياً، ووفقا للحقائق، التاريخية والاجتماعية والثقافية.

إن الحاجة إلى إعادة تعريف الهوية تظهر حينما تنهار مؤسسات الدولة، وتجربة إعادة تكريس الهوية القومية ضرورية ولازمة للمواطنة، ومرت بها الشعوب والأمم المتحضرة كافة. غير أن إعادة تعريف الهوية قد تكون محفوفة بالأخطار، فالعراق، مثلاً، يحتوي على نحو ست وستين جماعة إثنية ومذهبية ولغوية، وكل منها تريد إعادة تعريف نفسها في ظل الفوضى الضاربة في البلاد اليوم، ما يجعل الرغبات والآمال المتطرفة أكثر اندفاعاً من التفكير في الحقائق وقبول الآخر.

لكن بسبب ارتفاع نسبة الصراع السياسي في مجتمعنا، وتجذر إشكالياته في الوعي العام، انتقلت مفاهيم هذا الصراع وتمثلاته إلى حقول معرفية وثقافية أخرى، لتسبب بنشوب أزمات محلية بين الفئات المكونة للمجتمع، فالمدن، نتيجة هيمنة قوى بعينها، جاءت بعد التغيير، لتؤدي نوع من الصراع بينها وبين هويات تلك المدن، مثل أربيل وكركوك وعين عرب والقامشلي، ليس باعتبارها متحدات سوراقية سورية ـ العراق ، بل كردية أو آشورية. وقد تبرز آثار هذا الصراع في الوضع العام، وفي البنى التحتية والفوقية لها، وهنا تتفاعل الجماعات سيكولوجياً مع دفق التحريض وتزييف الوعي!

يبدو أن الكثير من النخب الثقافية العربية والأقلوية في مجتمعنا السوري لم تتخلى عن عقدها القديمة وأوهامها التي تكبر خارج صيرورة الوعي الاجتماعي وسياقاته وأسئلته، توازياً مع أمداء تثاقفاتهم الواسعة ومنافيهم الرمزية واللغوية، فهم ما زالوا يحدّون وظائفية هذا الوعي في أداء إشكاليّ، وربما توفيقي، مفترضين اشكالاً وتوريات لعلاقات متشنجة وانفعالية، ومفلسفين نظرتهم إلى الآخر بنوع من الغرائبية المغلولة الى مرجعيات معقدة لاشأن لها بالمعرفة وإنسانية الثقافة. يتوهمون حروباً دائمة واقعية وافتراضية، علماً أن صناعة هذه الحروب لا يمكن أن تؤسس لحوار عقلاني جاد مثلما ولا تمنحنا نملك القدرة على معرفة الآخر بكامل اشكالاته، بل حتى «مؤامراته!» وبالتالي لا تجعل الجميع أمام إمكان شخصنة تعقيدات الوعي المرعوب، الخائف، وتهويماته الإشكالية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى