غط الجراد وطار خوفاً من جراد السياسة…!
} علي بدر الدين
في سابقة لم يشهد لبنان مثيلاً لها من قبل، رغم كلّ الغزوات التي تعرّض لها براً وبحراً منذ قرون، بدءاً من الاحتلال العثماني الذي حكم البلاد والعباد ما يقارب الأربعماية سنة، بالحديد والنار والقمع والتفقير والتجويع، تلاه الانتدابان البريطاني والفرنسي، بعد خوض الحربين العالميتين الأولى سنة ١٩١٤ والثانية ١٩٣٩، وكان لبنان من «حصة» فرنسا بعد أن تقاسمت مع بريطانيا «الغلة»، بموجب اتفاقية «سايكس بيكو» سنة ١٩١٦، وأعقبها إعلان دولة لبنان الكبير سنة ١٩٢، ثم «منحت» فرنسا، لبنان استقلالا شكلياً سنة ١٩٤٣، وفرضت شكل نظامه السياسي الطائفي المذهبي، الذي أنتج دستوراً وقوانين وأنظمة ومؤسسات، وطبقة سياسية ضعيفة ومرتهنة لأسيادها الفرنسيين، و»قوية» في الداخل على شعبها بالاستبداد والتسلط والتحاصص والفاسد والنهب. ثم جاء الغزو الصهيوني للبنان واحتلال عاصمته بيروت ومناطق أخرى، استمر لبضع سنوات، وتمّ طرده بقوة المقاومة وتضحياتها وصمود اللبنانيين، فضلاً عن غزوات أخرى متعدّدة الأشكال بقديمها وحديثها، ومنها التتار والمغول والرومان وغيرهم.
كلّ هذه الغزوات، استقرّت في لبنان وجعلت منه قاعدة ومنصة للإطلالة على المنطقة، لحماية مصالحها وسياساتها فيها، ولأنها وجدت فيه أرضاً خصبة لتمرير أجنداتها، بل خاصرة رخوة، إنْ على مستوى نظامه السياسي الطائفي والمذهبي الذي لا يصلح لقيامة وطن بالمفهوم العام، ولا لبناء دولة ومؤسّسات فاعلة تلبّي الحاجة، ولأنها أيضاً خبرت طوائفه ومذاهبه وزعاماته، الذين لم يكن همّهم الوطن، رغبة منهم أو استجابة لمن عيّنهم ودرّبهم واشترط عليهم.
الأسوأ هو استمرار حروبهم التي لا تنتهي، إما مباشرة او بالفتن والصراعات الطائفية والمذهبية، ما أتاح لكثير من الدول الاستعمارية الغربية البحث موطئ قدم لها في المنطقة، ومن بوابة لبنان لسهولة الدخول اليه، أو التمركز على سواحله، والاستفادة من ادّعاء بعض اللبنانيين، انّ من طبيعة اللبناني الشطارة و»الفهلوة» وقدرته على اغتنام الفرص واقتناص الطريدة، وسرعته في نقل «البارودة من كتف إلى كتف».
وحدها غزوة الجراد لم يكتب لها النجاح أو التمركز والتموضع في مفاصل الجمهورية والدولة والمؤسسات والحقول ساحلاً وجبلاً وأريافاً، لأنها، لم تجد أو تعثر على ما يشفي غليلها، ويوفر لها مقومات معيشتها، حتى بالحدّ الأدنى، فلم تستطع التأقلم ولم يطِب لها المقام، ولم تتحقّق الغاية التي من أجلها قامت بغزوتها، لأنها اكتشفت من خلال عملها الاستطلاعي واللوجستي، انّ هذا البلد لا يصلح حالياً للعيش فيه، ولم يعد كما كان سابقاً، أقله ما كانت تتنعّم فيه، في غزواتها السابقة المتعدّدة، ومنها غزوة الحرب العالمية الأولى في عصر «السفربرلك» والمجاعة، لأنّ جراد السياسيين، سبقها الى الحقول وأكل الأخضر واليابس ونهب الحصاد بأكمله، ثم حرق الأرض، وحوّلها إلى جرداء قاحلة، ولن يسمح للجراد، ولا لأيّ فصيل حيواني أو بشري مزاحمة «جرادهم» على أيّ إنتاج أو مورد مهما كان نوعه وحجمه. لذا طار الجراد بعد أن غطّ لبعض الوقت، معلناً انسحابه من حلبة منافسة السياسيين على أرزاق اللبنانيين، لأنه تأكد ميدانياً أن لا أحد يقدر على جراد الحاكمين، مهما بلغ شأنه، فخرج الجراد غير آسف، لأنه وجد أنه لم يعد في لبنان ما يستحق الأسف والندم، لكنه ترك رسالة إلى الشعب اللبناني العظيم، يسأله فيها كيف يستطيع العيش في لبنان، في ظلّ حكام صادروا كلّ شيء وتركوا البلد والشعب على «الحديدة».
المشكلة تكمن في انّ الجراد القادم من الصحراء، لا يعلم انّ البلد غير قادر على الطيران بعد ان قصقصت المنظومات السياسية والمالية الحاكمة المتعاقبة جناحيه، وتركته فريسة سهلة لاحتضار بطيء، وتركت شعبه فريسة الفقر والجوع والبطالة والمرض والذلّ، وقد طار نصفه إلى قارات العالم، والبعض إلى المقابر والبعض الآخر يعاني وطريقه سالكة إلى جهنّم وبئس المصير. وقبل هذا وبعده، طارت الحكومة وما زال المؤلفون يعزفون على مصالحهم وحصصهم، وهي تحوم في الفضاء الخارجي الإقليمي والدولي، يبحث قبطانها عن محطة آمنة للهبوط عليها من دون جدوى. ثم طار الإصلاح والتغيير، وطار معهما التدقيق الجنائي، وترسيم الحدود البحرية وحق لبنان بنفطه وغازه ومياهه، ويبدو أنّ غزوة المدّعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، هي بدورها تتحضر لأن تطير.
فجأة ومن دون مقوّمات، عادت نغمة الدعوة إلى الاستقالة من مجلس النواب، لتبرير عدم وجود الميثاقية، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، على أساس القانون الانتخابي الحالي المشوّه والمشبوه، في حين يتمّ التداول سراً وعلانية عن بروز مؤشرات التمديد في رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي، على وقع وجع الناس وجوعهم.
اللافت والمثير انّ المنظومة السياسية والمالية والسلطوية، باتت «قاب قوسين» من إقرار رفع الدعم، في حين أنها مختلفة على كلّ شأن يتعلق بمصير البلاد والعباد.
هل بعد كلّ الذي حصل ويحصل في هذا البلد المنكوب، وعلى شعبه المسكين، نستكثر على الجراد قراره بالمغادرة على عجل، حتى لا يلتهمه جراد السياسة الذي لا يرحم أحداً.