السيادة والرئاسة والكيماوي وازدواجية المعايير
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
التصاعد في اللهجة التي تتناول عزم الدولة السورية على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها ووفقاً لنصوص الدستور السوري، تريد الإيحاء عبر ما يجري الزجّ به من أرقام وتحليلات ومقارنات ومقاربات، أنّ الدولة في سورية كيان اسمي لا حول له ولا قوة، وعاجز عن قيادة العملية الدستورية التي يمثلها الاستحقاق الرئاسي، مما يستدعي تدخلاً خارجيا إما لإنجاز صفقة سياسية تحدث تغييراً جوهرياً في بنية الدولة لصالح إدخال مكوّن يمثله الائتلاف المعارض ومنحه دوراً محورياً عبر صيغة الأخضر الإبراهيمي لمؤتمر جنيف، التي فشلت في تحقيق أي نجاح لتناقضها مع نصوص جنيف واحد من جهة، ومع مقومات السيادة السورية أساساً، وإما معاملة سورية كدولة فاشلة يضع مجلس الأمن الدولي يده عليها بصيغة انتداب ووصاية، فيُصدِر لها إعلاناً دستورياً ويُكلف من يدير مرحلة وضع دستور جديد والإشراف على العمليات الانتخابية التي تنتج منه.
هذه المقاربة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتردّدها المستويات الدولية التابعة للأمم المتحدة من الأمين العام إلى مبعوثه لسورية وما بينهما من مفاصل تتعاطى الشأن السوري، تتجاهل المواجهة الدائرة مع الإرهاب في سورية، وهو ذات الإرهاب الذي يجد من يبرّر له ويخترع له الذرائع ليصنّفه في دائرة ردود الفعل المفهومة والمشروعة والدفاعية، بمثل ما كان ولا يزال يجد من يؤويه ويموّله ويؤمّن له الملاذات والممرّات للوصول إلى الجغرافيا السورية من الذين يفتحون النار على الاستحقاق الدستوري الرئاسي الأهمّ في تاريخ سورية ومؤسساتها السياسية.
بين هذه وتلك يُطرح السؤال: هل تعرف الحكومات الغربية حقيقة قدرات الدولة السورية وتصرّ على تجاهلها؟
هل تدرك الجهات التي تشكك بأهلية الدولة السورية على رعاية الاستحقاق الدستوري الرئاسي، أنّ الدولة في سورية مؤهلة لذلك وأكثر، وهي تقول ما تقوله من طعن وتشكيك وفي سياق حرب نفسية تهدف إلى الابتزاز وتحسين مواقع التفاوض؟
هل في سجلّ المتابعة التي تجريها هذه الدول والهيئات والمنظمات لمسؤوليات الدولة السورية ما ينفي كلّ ما تتضمّنه بياناتها، ويؤكد أنها تمارس النفاق والدجل وتوغل في اعتماد معايير مزدوجة في تقييم قوة ومتانة وتماسك وفاعلية أجهزة ومؤسسات الدولة في سورية؟
ثمة ملفان يجمع الداخل والخارج والقاصي والداني على ربطهما كعنوانين يحضران في كلّ مقاربة غربية للمشهد السوري هما عنوانا الإرهاب والسلاح الكيماوي.
في ملف الحرب على الإرهاب الذي يشكل مفردة متواصلة الحضور على مدى سنتين، يعرف الغرب المذعور من عودة مئات المقاتلين فقط من بين عشرات الآلاف الذين سهّل وصولهم إلى الجغرافيا السورية، وسلّحهم ودرّبهم وقدم لهم التغطية السياسية والإعلامية والمعنوية، ووصفهم كما فعل الرئيس الفرنسي مراراً بالثوار من أجل الحرية، أنّ الدولة في سورية تخوض وحدها حرباً متعددة الجبهات، واحدة منها مع هذا الإرهاب الذي يشكل بتجمّعاته المتسجلبة إلى سورية وفقاً للصحافة الغربية وتقاريرها، ضعف العدد الذي استجلب للحرب في أفغانستان، ويشكل بالتالي أكثر من نصف طاقة التنظيمات والتشكيلات الإرهابية على مساحة العالم، وأن سورية وحدها بمؤسساتها الشعبية التطوعية وجيشها وأجهزتها الأمنية المحترفة وبدولتها المتماسكة المنتشرة فوق مساحة الجغرافيا السورية، تمكنت من الصمود وامتصاص هذه القدرات التخريبية التي عجزت عن صدها دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا، والغريب العجيب أن الحديث التشكيكي بقدرة الدولة السورية على تحمّل أعباء إنجاز الاستحقاق الرئاسي والنجاح في أداء موجباته يأتي في ظلّ امتلاء التقارير الغربية بالتنويه بالإنجازات غير المسبوقة والمتواصلة التي تحققها القوات المسلحة في سورية على مجموعات الإرهاب، التي تتهاوى أوكارها وما سُمّي بقلاعها تحت ضربات الجيش السوري وأمام صمود الشعب في سورية، ويسقط قادة هذه المجموعات الإرهابية بالعشرات والمئات يومياً، بصورة أذهلت المراجع المهتمة تقنياً بمجريات المواجهة العالمية مع الإرهاب لتصير سورية النموذج الفريد الذي ينجح حيث فشل الآخرون.
يجري هذا بينما سورية تواجه عقوبات اقتصادية ظالمة تحرمها من توظيف مقدراتها واستثمارها، وتوفير مقومات الحياة الكريمة لشعبها، وبينما تتورّط أجهزة استخبارات غربية وعربية في أبشع أنواع التآمر على الأمن السوري، وتتواطأ مئات أجهزة الإعلام الواسعة الانتشار الممولة عربياً وغربياً بتشويه صورة سورية وتزوير الحقائق عما يجري فيها.
على ضفة موازية في الأهمية وتحت مجهر المراقبة العالمية السياسية والاستخبارية والإعلامية تقوم الدولة السورية بأجهزتها الأمنية واللوجستية والعلمية، بتفكيك واحدة من أضخم الترسانات العالمية في مجال السلاح الكيماوي، وتقوم بتأمين نقلها وتسهيل تدميرها وتفي بالتزاماتها المنصوص عليها في شروط انضمامها إلى المنظمة العالمية للحدّ من انتشار السلاح الكيماوي.
مسألة السلاح الكيماوي وتفكيكه وحدها تكفي للقول، إنّ البعد المعنوي فيها لدى القوات المسلحة والثقافة التقليدية في النظر إليها كمكافئ ردعي للسلاح النووي الإسرائيلي، يجعل قرار التوقيع على المعاهدة الدولية واحداً من أكثر القرارات الحرجة والحساسة التي لا تجرؤ على الإقدام عليها إلا قيادة واثقة من حجم إمساكها بقرار البلاد ومؤسساتها وبدرجة الثقة العالية التي تحوزها لدى شعبها وجيشها، وليس من المبالغة القول إنه بصورة ربما تزيد في الأهمية، يمكن مقارنة القرار التاريخي للرئيس بشار الأسد بقراره سحب القوات من لبنان عام 2005، وهو القرار الذي ظنّ الكثيرون أن الدولة السورية أعجز من أن تقدم عليه وأنّ مجرّد التفكير به كفيل بتفكك الجيش والدولة، فيكف بقرار يتصل بحسم مستقبل السلاح الكيماوي.
ليس من المبالغة القول إنّ دولة مستقرّة وراسخة وعلى رأسها قيادة تاريخية وفي ظروف طبيعية ولا وجود للحرب على الإرهاب فوق أرضها، تعجز عن اتخاذ قرار يحتاج إلى هذه الدرجة من الشجاعة والثقة بالتماسك الداخلي والانضباط، وربما تتعرّض للاهتزاز وتتعرّض بناها للانشقاق والتمرّد.
الغريب العجيب أن الذين يشككون بقدرة سورية وأهلية دولتها على تحمّل مسؤولية الاستحقاق الرئاسي يفعلون ذلك، فيما تمتلئ التقارير الأمنية والأممية بالإشادة بنجاح الدولة السورية بإنجاز أكثر من 90 في المئة من عملية تفكيك المنظومة الكيماوية وفقاً للاتفاقية مع الأمم المتحدة، والأشد غرابة أنّ هذا يجري وسورية جيشاً ومؤسسات تقاتل على عدة جبهات وتواجه مشاريع تخريبية سعت إلى تخريب البرنامج المقرّر لتنفيذ التفاهمات الخاصة بالسلاح الكيماوي لخلق فرص التشكيك بجدية الدولة السورية بتنفيذ الاتفاقيات.
الأشدّ غرابة هو أنّ هذا يجري بينما تختلق التقارير التي تتهم سورية باستخدام غاز الكلورين والحديث عن لجان تحقيق بصدده، لصرف النظر عن إنجازات سورية في مجالي الحرب على الإرهاب وإنجاز التزاماتها في الملف الكيماوي، وسورية التي تنفي نفياً قاطعاً كلّ هذه التهم المفبركة وتؤكد عدم استخدامها غاز الكلورين وسواه من المواد السامة، تعلم جيداً أنّ الحملة الاتهامية تأتي للتغطية على التقارير التي حسمت الجدل حول المسؤولية عن المجازر التي تعرّض لها السوريون بواسطة الأسلحة الكيماوية، والتي بات ثابتاً أن حكومة رجب أردوغان تقف وراءها.
السؤال هنا هل يمكن لدولة قادرة باعتراف الجميع على خوض حرب تختصر حروب دول العالم كلها على الإرهاب، وتحقق الانتصارات على رغم ضعف مواردها حيث فشل الجميع على وفرة مواردهم، أن تكون موضع نقاش في أهلية مؤسساتها على إنجاز ما هو أقلّ؟
السؤال هو هل يمكن لدولة يعترف لها العالم بالقدرة على اتخاذ أشدّ القرارات شجاعة بصدد سلاحها الكيماوي والنجاح بتنفيذ التزاماتها بكلّ ما تتضمّن من دقة وجهد وإمكانات وقدرات، أن يطعن في قدرتها على إدارة ما هو أسهل وأقلّ خطورة وأكثر شعبية؟
السؤال: هل يُعقل أن يغيب عن الذين يعرفون كلّ هذا أنهم يكذبون عندما يتناولون إقدام سورية على السير بالاستحقاق الدستوري بالطعن والتشكيك؟
الجواب هو أنّ سورية التي تخوض حربها على الإرهاب من منطلقها السيادي، والتي تؤدي التزاماتها الدولية في ملفها الكيماوي وسواه من منطلقها السيادي أيضاً، ستقارب مسؤولياتها وتؤديها كاملة في الاستحقاق الرئاسي من ذات المنطلق السيادي.
ازدواج المعايير لن يثني سورية عن المهمة التي تنتظرها شعباً ومؤسسات، والدولة السيدة في سورية هي التي عقدوا معها الاتفاقات بصدد السلاح الكيماوي، فكيف تكون دولة أهلاً للثقة هنا وليست أهلاً لها هناك؟
السوريون يديرون ظهورهم ويصمّون آذانهم عن كلّ الكلام النابع من عقدة نقص البعض وعقدة ذنب البعض الآخر، وهم ينتصرون حيث غدر بهم الآخرون أو حيث هزم الآخرون.