سورية تنتخب.. وأطماع تندثر
} سماهر الخطيب
عقدٌ من الزمن ونيّف مرّ على سورية وقد واجهت خلاله أعتى أنواع الحروب وأشرسها وأشدّها ضراوة كانت حبات سنونه عجافاً ذاق أبناء الشعب السوري خلالها أمرّ اللحظات وتجاوز أعنف الأزمات بصبره وتجلّده وتضحياته ومواجهته كتفاً بكتف مع جيشه ومؤسساته وقائده شتى أنواع الحروب الإرهابية، سواء أكانت تحمل طابع الإرهاب الفكري أو الاقتصادي بعد أن اجتمعت دول العالم أجمع لتقاتل وتصفي حساباتها على أرض ليست بأرضها ولتستبيح حرمة وكرامة شعبها المقاوم.
والسبب هو أنها دعمت وتدعم الفصائل المقاومة، وترفع راية فلسطين عالياً، وأبت أن تكون إلا ذات سيادة حرة مستقلة، وأبت تمرير أي صفقة تطال مقومات الشعب السوري، ورفضت التوقيع والتنازل عن أيّ شبرٍ من أراضيها وأراض جنوبها الفلسطيني.. ولأنها الدولة الوحيدة في المجتمع الدولي غير مدينة لصندوق النقد الدولي، ووصلت حد الاكتفاء الذاتي، إضافة لكونها مركز وعقدة الطرق الدولية البحرية والبرية وكذا الجوية..
نعم، تجرأت دول لا تملك من الحضارة تاريخها أن تتمادى على منبع الحضارة وتاريخ يعود لآلاف السنين من الرقي والتحضر والتقونن بل وأكثر صدّرت الحرف والرقم والقانون والفن لمن كانوا يعيشون عصور الظلام ويتأرجحون على حبال الجهل ويستحلون أراضي ويمارسون أبشع المجازر بحق سكانها الأصليين، هذا تاريخهم وذاك تاريخنا، فكنا الماضي والحاضر، والمستقبل سيكون لنا..
فإذا نادوا بالديمقراطية فنحن صناعها، وإذا قالوا في حقوق الإنسان فلدى نبوخذ نصّر مرجعه، وإذا طالبوا بتطبيق القانون فحمورابي موضعه، وإذا قالوا بالدولة فلدى ابن خلدون مقدّمتها، وإذا تكلموا عن المنطق والفلسفة فلدى ابن رشد والفارابي والكواكبي وأنطون سعاده تفصيل كامل عنها..
إنما ديمقراطيتنا من بيئتنا من مورثاتنا ومن حضارتنا ليست إسقاطاً وليست ثوباً نخلعه ونلبسه نضيقه ونقطّب به، وليست قالباً جاهزاً أو تفصيلاً بل حياكة حاكتها سنون وعقود وقرون تشبه ما تربينا عليه وما هو داخل مكنوناتنا ليست تلك الغربية المعنونة بالليبرالية ورأسماليتها المتوحشة القائمة على الفردية بكل ما تحمله من أنانية ونرجسية ومصالح فردية..
وقد تكشّفت الأكذوبة الغربية للديمقراطية والتي قامت على خداع بصريّ تاريخيّ وفضح زيفها مع تلك الاحتجاجات العارمة في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وسكوتهم عن الممارسات الصهيونيّة بحق أبناء فلسطين المحتلة..
في حين أضحت سورية أحد أهم محاور الصراع بين القوى الإقليمية والدولية وزلزال مدمّر انعكس على الطبقات التكتونية الإقليمية والدولية وباتت البوتقة التي تشهد مخاض الانتقال من نظام عالمي أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.
وفي بانوراما زمنية للأحداث بدأ خلالها المحيط الاستراتيجي لسورية بالتبدل بطرق هامة منذ ربيع عام 2000 مع انهيار المسار السوري لعملية السلام بشكل فعلي في قمة كلنتون – الأسد في جنيف مما ألغى الإطار الرئيس لهيكل العلاقات السورية مع الولايات المتحدة، والانسحاب «الاسرائيلي» من جنوب لبنان وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول 2000 ووصول جورج بوش الابن إلى رأس الهرم الأميركي وما ترافق معه من هجمات 11 أيلول 2001 وإعلان الحرب على الإرهاب واجتياح العراق عام 2003 واغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وحرب تموز عام 2006 والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007 – 2008 والعدوان على غزة عام 2009 و»الربيع العربي» عام 2010 بالتزامن مع بداية شرارة الحرب على سورية عام 2011 والتي لا زالت مستمرة حتى اليوم من العام 2021 هذا السياق الزمني في أحداثه التي لا مجال لذكرها هنا يوضّح كيف تأثرت سورية ومسيرة الإصلاح وتعرقلت وبالرغم من ذلك فإننا سنقسمها مرحلتين زمنيتين:
الأولى، تمتد منذ 2000 حتى 2011 بدأ الرئيس بشار الأسد على الصعيد الخارجي حواراً نشطاً مع الدول المجاورة والشركاء، وكان أحد الأهداف المرافقة لهذه الاتصالات تشكيل ائتلاف لاحق يمنع انتشار الوجود الأميركي في المنطقة ويحول دون إعادة توزيع القوى في الشرق الأوسط لصالح هذا الوجود. وبدأت تقطف ثمار تلك السياسة خلال السنوات الأولى التي عنونت بـ»ربيع دمشق».
على الصعيد الداخلي، لم يحدد الرئيس الأسد نهج سورية في المجالين الاقتصادي والتقني فقط، إنما حدد المسار الديمقراطي لكن ليس نسخة غربية بل مسار خاص لسورية تستمده من تاريخها وتحترم عبره مجتمعها وقال مراراً في موضوع الديمقراطية «لا يمكننا أن نطبق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا، فالديمقراطية الغربية على سبيل المثال، هي نتاج تاريخ طويل أثمر عادات وتقاليد تميز الثقافة الحالية في المجتمعات الغربية. ولتطبيق ما لديهم علينا أن نعيش تاريخهم مع كل أهميته الاجتماعية وكما أن من الواضح أن هذا مستحيل ينبغي أن نمتلك تجربتنا الديمقراطية التي هي خاصة لنا والتي هي استجابة لحاجات مجتمعنا ومتطلبات واقعنا».
كما انتقد الرئيس الأسد منذ تسلمه مقاليد الحكم «بيروقراطية الدولة بكونها غدت عقدة رئيسية أمام التطور»، وأقرّ بأن «التقدم الاقتصادي لم يكن منصفاً وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى هيمنة اقتصاد الدولة»، قائلاً: «لا تعتمدوا على الدولة. فليست لديها عصا سحرية وعملية التغيير تتطلب عناصر لا يملكها شخص واحد.. السلطة بلا مسؤولية هي السبب في الفوضى». وتابع قائلاً: «قد يعتقد بعضهم أن العقول المبدعة ترتبط بالعمر وأنها يمكن أن توجد مع العمر غير أن هذا ليس دقيقاً تماماً فلدى بعض الشباب عقول قوية حية وخلاقة».
في المحصّلة، تخطت سورية العديد من الصعوبات التي واجهتها في هذه المرحلة الزمنية وخرجت من دوامة الأزمات وأخذت تتعافى تدريجياً وتستعيد حيويتها الإقليمية وتعمّق تحالفاتها وتواصل دعمها لحركات المقاومة. كما بدأت رؤية سورية الاستراتيجية لربط البحار الخمسة، (المتوسط والأحمر والخليج والأسود وقزوين)، بشبكة تعاون إقليمية – دولية في إقليم جغرافي واحد، مخاطره واحدة ومصالحه متقاربة.
أما المرحلة الزمنية الثانية فامتدت منذ عام 2011 ولا زالت مستمرة حتى اليوم الذي يشكل مع الانتخابات الرئاسية نهاية لتلك المرحلة المعنونة بـ»الحرب السورية».
في المرحلتين الزمنيتين اللتين ذكرناهما، كان على سورية أن تجري حسابات إقليمية استراتيجية لا تتخلى عن مواصلة دعم قوى المقاومة. واستندت في مواجهة تلك التحديات إلى استراتيجية واضحة كرّسها وعدّلها الرئيس الراحل حافظ الأسد منذ 1975، حيث بدأ الرئيس بشار باستلهام دروس استراتيجية والده وفي أساسها كان بناء الجبهة المشرقية.. ومن جملة الدروس أن سورية لم تغيّر خطابها القومي العربي، ورغم تواضع ثروات سورية الاقتصادية أصبحت دولة مركزية في المشرق شديدة الاستقلال في قراراتها وخياراتها وهو استقلال أصبح نادراً بين الدول.
في المحصّلة، سارت الخطوات السورية الموجهة نحو توحيد قدرات الدول الإقليمية الكبرى بالتعارض مع المخططات الأميركية فوقفت دمشق عثرة أمام تحقيق المصالح الأميركية في المنطقة.
واليوم، تقبل سورية على استحقاق رئاسي جيّش الغرب وأميركا كل أدواتهم المالية والإعلامية والبشرية لعدم حصوله وشددت لأجل إثارة الشعب السوري ضد قيادته وجيشه الخناق الاقتصادي بعد فشل ما روّجت له أميركا وحلفاؤها من إرهاب فكري وتوريد أكثر من عشرة آلاف مقاتل من ثمانين دولة للقتال في الأرض السورية عبر جسر جوي مفتوح من تركيا في محاولة للسيطرة على الأرض السورية وإسقاط مؤسساتها بالقوة، لكنها لم تحتل الإرادة الشعبية فالأرض التي احتلت ستعود لأصحابها كما عاد معظمها إنما الإرادة إذا احتلت فمحال أن تعود وهو ما لم تستطع تحقيقه ما يعني فشل أهدافها.
وتلك الإرادة السورية اليوم تقول بضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في وقتها وتترجم الأقوال لأفعال دونما أن تعير انتباهاً لما يدور حولها من خزعبلات تقول بـ«عدم دستورية» هذه الانتخابات فقد كشف زيف قائلها وسقط القناع عن مروّجها.
وسورية اليوم تنتخب وتنهي عشر سنوات عجاف بإرادة قالت وفعلت وصمدت وانتصرت ليخضرّ ربيعها وتبرعم أيامها وتجني ثمار ما زرعت من تجلّد وصبر بفرج النصر والحق المبين.
نعم، إنها سورية عروس التاريخ وأيقونة الجغرافية لها من الأمجاد ما لن تستطيع جيوش العالم مجتمعة أن تصله، وتتكسّر على أبوابها أطماع ومخططات مصلحية، سورية تنتخب وهي محمية بقدرة إلهية تجسدت بثالوث الشعب والجيش والقيادة.
سورية اليوم تؤكد أنّها إعجاز لن يقدر المعتدي على فك طلاسيمه. فالحياة وقفة عزٍّ فقط وأبناؤها أثبتوا أنّ لهم في العزّ وقفات وأنهم للحياة أبناء وأنّ لسورية مصلحة تعلو على كل المصالح وأنّ عند سورية تنتهي كل غاية.. وهم اليوم يجسدون إرادتهم وغايتهم ومصلحتهم بسيادة سورية واستقلالها وحريتها وإعلاء كلمتها على العالم أجمع.