درس في فقه الشام: قوة الإعاقة وقدرة الترجيح وأشياء أخرى!

محمد نعيم فرحات

«يتغيّر الزمن، غير أنّ خصائص الأقاليم الأصيلة تظلّ تشتغل بنفس الجوهر، لذلك، فإنّ ما يُقال فيها يوماً يصلح للعودة إليه في كلّ الأيام، وهو ما يؤكد دوام عبقريتها».

فصل من كتاب سّر الأقاليم غير المسطور

حيثما وقف أي لبناني أو فلسطيني أو أردني على سبيل التخصيص وليس الحصر، وحيثما تطلع أو اختار أن يتطلع، بنظره أم بخياله معاً، ليس بمقدوره ألا يرى أفقاً لا تكون الشام ظاهرة فيه أو مضمرة، وإذا حصل ولم يرها، فمن المؤكد أنّ ثمة خللاً ما أو خطأ ما، في الرؤية أو الموقع أو الموقف، أو عطباً ما، في الخيال، خصوصاً الخيال السياسي والاستراتيجي والوجودي، لأنها خيالات مسكونة بالجغرافيا وليس بمقدورها أن تكون بدونها.

هذا المعطى، الذي يحكم لبنان وفلسطين والأردن ويحدّها من كلّ صوب، كلّ في سياقه، بما هي امتدادات لإقليم الشام، هو معطىً كوّنته الأزمنة والأحداث والوعي والسياسة والوقائع والمصائر والأقدار وطبائع الأقاليم وقدراتها وأوزانها ومعانيها.

وبذات القدر فإنّ الشام كإقليم، لا يستطيع أن يرى نفسه، دون أن يكون أول ارتداد لبصره، آتٍ من فلسطين فلبنان فالأردن، قبل أن يتجه شرقاً في مداره الطبيعي والتاريخي والوجداني العميق، ليتزوّد بمتانة العراق وثقله ودوره وهول معناه، ثم يتجه جنوباً مع ميل إلى النظر غرباً كي يعاين مصر واحتمالاتها.

فالروابط التي تقوم بين إقليم الشام ومحيطه القريب هي بالنسبة له وللمحيط، قدر جغرافي وسياسي وتاريخي لا يمكن تخطيه، ومن العبث فعل ذلك، وهي روابط تنطوي على إحدى إمكانيتين لا ثالثة لهما: فإما أن تكون موضوعاً للخسارة وما يترتب عليها من أثمان ومخاطر وتفويت للفرص عندما تشتغل على نحو خاطئ. أو أن تكون بناءة وآمنة ومجدية وضرورية لكلّ الأطراف عندما تعبّر عن نفسها كما تتطلب العواطف الأصيلة والمصالح الحيوية، وهو أمر له متطلباته التي يعرفها جميع المعنيين. حيث التعامل غير الأصيل معها، اندرج دائماً في نطاق إمكانية الخسارة فقط.

وبدراسة وفحص تاريخ الروابط بين الشام ومحيطها نجد بأنه كلما كانت هذه الروابط مبنية على منطق التفلت من التزاماتها أو على منطق الهيمنة والإخضاع، كلما كانت درباً موصوفاً للخسارة، سواء لإقليم الشام أو لمحيطه. وهنا تبرز أهمية التعاطي البنّاء مع منظومة الأقدار التي تتحرك فيها، وتجنّب تحويلها إلى علاقة قاتلة بالمعنى المجازي أو الحرفي.

هذا التشخيص لا يعني تحويل الشام إلى باب عالٍ بالمعنى العثماني وإنْ كانت هي حقا باباً عالياً بالمعنى الحضاري والإنساني والاستراتيجي، لأنّ مثل هذا الأمر يضرّ بها أولاً وعاشراً. بل هو تشخيص يدعو المعنيين به كي يستولدوا من الروابط الصيغ المناسبة التي تصون المصالح والعواطف الإيجابية لكلّ الأطراف. كما تتضمّن بعد تنظيم الاختلاف باعتباره جزءاً أصيلاً من صميم كلّ علاقة، بما في ذلك العلاقات العاطفية، فكيف هو الحال إذا كانت العلاقات سياسية؟

وفي تحليل الشام يجب الذهاب إلى الإقليم وطبيعته وخصائصه وخصاله ودلالاته وأعرافه، ومن ثمّ العودة إلى قراءة النظام السياسي الذي يقوم فيه، وفحص درجة تمثله لطبائع الإقليم وليس العكس، لأنّ تحديد موقف «عصابي» من النظام وإهمال الإقليم هو مجازفة خاطئة في أرقّ الأوصاف.

ولفهم سورية منذ تشكلها كإقليم في نسيج المشرق العربي خصوصاً منذ 1400 سنة، ثمة أمر جوهري يجب التوقف عنده من طرف كلّ المعنيين بالشام قريبين كانوا أم بعيدين، خصوماً كانوا أم حلفاء، وهو، أنّ الشام تمتلك كما لا يمتلك غيرها من أقاليم المنطقة: قوة الإعاقة لأيّ ترتيبات في الشرق الأوسط مهما كان الحلف الذي يقف وراءها، مثلما تمتلك قدرة الترجيح لأيّ خيار تنتجه المنطقة أو أقاليمها لنفسها، وهذا ما منحها عموماً مكانه خاصة ومميّزة وحساسة، رغم أنها لا تمتلك معطيات العراق الاستراتيجية المصيرية، أو مساحة دور مصر عندما يكون أصيلا ، باعتبار أنّ العراق وسورية ومصر، هي أقاليم العرب الأساسية العالية، جغرافياً وتاريخياً وحضارياً، في الماضي والحاضر والمستقبل.

وفي هذا السياق من الجدير الانتباه، إلى أنّ معطيات العراق لا تكتمل بدون سورية، ودور مصر الإيجابي لا يبلغ مداه بدونها أيضاً، هذه المكانة الخاصة للشام كإقليم، هي التي نستطيع من خلالها فهم وتفسير دورها في مختلف الأحوال والأوضاع والحقب، وهي مكانة كان التصادم معها أو سوء فهمها ينطوي على خسائر متفاقمة، فيما التفاهم البناء والإيجابي معها كان يتضمّن فوائد متصاعدة، وعموماً كانت بنيات الحكم التي تقوم في الشام تعي وتدرك هذه الخصائص، وفي التاريخ السياسي المعاصر لسورية، تميّزت العقود الخمسة الأخيرة بوجود بنية حكم، استبطنت هذا المعطى وأعطته تعبيرات سياسية ناجعة، بصورة تؤكد على صوابية التوصيف السابق.

ومن المثير أن يدرك الأبعدون هذه الحقيقة، بعد جهد هائل كانوا يبذلونه لتهميش الشام، ويتصرّفون سياسياً الآن في ضوء مستلزماتها، فيما لم يفتقد برّ الشام الغربي والجنوبي وجود قوى وزعامات حاولت تخطي هذه الحقيقة السياسية فعادت بغنيمة الخيبة والخسارة، فيما لم تفقد الشام نفسها، فيما هناك من يسيء استخدام هذه القوة ويحوّلها، من ثروة استراتيجية إلى هيمنة قاصرة ذات عوائد سيئة، سواء للشام أم لمحيطها، وفي هذا الصدد يمكن أن نستخرج أمثلة عديدة: قديمة ومعاصرة، على بؤس ما ترتب عن هذا النزوع وأثاره المكلفة لجميع الأطراف.



وتبقى نوازع البشر وغرائزهم السياسية وما يبنونه عليها من خيارات، قابلة للزوال أو التبدّل أو التغيّر أو إعادة إنتاج نفسها في ظروف وصياغات جديدة بما يترتب على ذلك من مكاسب لحظية أو وهمية أو أثمان حقيقية. ولكن الرؤية الأصيلة هي التي تبقى بمفاعيلها وتدوم. فيما تظلّ ديكتاتورية الجغرافيا، أبداً وقدماً عبر الزمن، بمثابة قوانين، أو هي بالأحرى قوانين بعينها، وعوامل حاكمة، لها دور تؤدّيه في التاريخ ومحطاته ومحصلاته.

أما الذين أظهروا عناداً أو خروجاً على ديكتاتورية الجغرافيا المتنكرة أيضاً في صلب التاريخ، فقد جرى استيعاب خروجهم وعنادهم عموماً وإعادتهم من حيث خرجوا غير سالمين في كثير من الأحيان، وكانت الأثمان قاسية عليهم وعلى الآخرين. وما كانت تثيره الغريزة السياسية من رغبة في التفلت هنا، كانت الجغرافيا السياسية تتولى إعادته إلى قواعده بأكلاف كان من الضرورة ومن المصلحة ومن الحكمة تجنّبها.

والشام كإقليم بالنسبة إلى محيطها، هي اليوم كما كانت عبر الزمن، ليست عنصراً طارئاً أو يمكن تفاديه أو تخطيه، والعكس صحيح أيضاً مع فوارق وازنة، والمسألة هي مسألة تدبّر الأمر، على نحو إيجابي يضمن المصالح والعواطف من طرف كلّ المعنيين، واستخلاص العبر والدروس من الخبرات السابقة التي انطوت على شتى أنواع الخسائر، خسائر ربح من ورائها من تتفق الشام ومحيطها على أنهم خصوم عتاة لها ولهم، يمتدّون من هنا حتى هناك!

كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى