مأزق القوى السياسيّة في تحقيق الإصلاح وإسقاط دكتاتوريّة السلطة الفاسدة…!
د.عدنان منصور _
ما الذي يمكن قوله عند متابعة تحركات، ونشاطات، واجتماعات، وتجمّعات قوى وطنية على الساحة اللبنانية، من مختلف الميول السياسية والتوجهات العقائدية التقت على قاسم مشترك في ما بينها، ربما يكون الوحيد، وهي تطالب بمواجهة الفساد، وتطبيق سلطة القانون، ومحاكمة الفاسدين الذين عبثوا بكرامة وطن وأذلوا شعباً، ونهبوا دولة!
لا أتصوّر أنّ أحداً في لبنان ضدّ مواجهة الفساد واستئصاله، باستثناء رعاته وحماته داخل السلطة… قاسم مشترك هو بيت القصيد لأيّ تحرك شعبي يستهدف زمرة الفاسدين مباشرة.
لكن أن يتذمّر اللبنانيون، كلّ اللبنانيين من واقع الحال المزري الذي دمّر وقضى على معيشتهم، ومالهم ومستقبلهم، وأحلامهم، وبعد ذلك يتأقلمون مع
ما هم عليه دون إحداث الصدمة، وتحقيق ولو الحدّ الأدنى من الإنجازات في انتزاع حقوقهم، ووضع اللبنة الأساس لبناء دولة المواطنة، والعدالة، وحقوق الإنسان، فهذا أمر مستغرَب وغير مقبول.
على الرغم من المطالبة الشعبية، وإجماع اللبنانيين على التغيير، والعمل على اجتثاث الفساد ومحاكمة الفاسدين، فإنّ تحرك الشعب لا يزال على حاله المتواضع، إذ يقتصر على التنديد والاحتجاج، وعلى إقفال الطرقات من آن الى آخر.
لعلّ من أسباب هذا الجمود والخمول أنه يأتي نتيجة عقليّات ومفاهيم خاصة لكلّ تجمع أو تنظيم أو ملتقى أو رابطة أو حزب أو ناد أو حركة أو منتدى، أو ما شابه ذلك، حيث إنّ كلّ فريق، من باب الغرور والإفراط الزائد بالثقة، لا يتنازل عما يراه في نفسه من مقوّمات وميزات عالية غير موجودة عند الآخرين، معتبراً نفسه أنه جاء في موعده مع القدر لتحقيق أهداف الشعب دون سواه. وبالتالي، يرفض او يتحفظ حيال أيّ عمل أو تنسيق، أو لقاء، أو نهج إن لم يكن هو الموجه الاساس، وتكون له القيادة، واليد الطولى في رسم الخطوط العريضة للعمل المشترك، وللنهج الواجب اتباعه.
ليست مسألة «القيادة» هي العقدة الوحيدة للقيام بالعمل المشترك، وإنما لجوء كل فريق الى تسييس التحرك والمطالب الشعبية الحياتية، ما يعمّق الخلاف في ما بعد، بين الأفرقاء المتطلعين الى الإصلاح، ويجهض عملهم الهادف الى بناء الدولة العصرية، وصون القضاء،
واحترام سلطة القانون.
من أكثر الخلافات الجانبيّة التي تبعد قوى التغيير عن بعضها البعض، وتشلّ تحركها وهي في مواجهة الطبقة السياسية الفاسدة، وتبعدها عن هدفها الرئيس، هي الخلافات الدائرة بين قوى اليمين واليسار، الانفتاح والانعزال، الانتماء للمحيط، والحياد عنه. كذلك التباين في المواقف لجهة المقاومة والمهادنة والقبول بالأمر الواقع. ولا يتوقف الخلاف عند هذا الحدّ، بل يمتدّ الى التموضع والاستنساب في علاقاتنا الدولية، حيث هناك مَن يريدها متميّزة مع الغرب، دون الانغماس والاعتماد على الشرق، وهناك مَن يريد التحوّل جزئياً عن الغرب والتوجه الى الشرق. كما نلحظ أيضاً خلافات ومواقف متباينة حول تحديد وتعريف وتمييز العدو الحقيقي من الصديق الوفي، حول مَن يقف بجانب المقاومة ويدعمها، ومَن يرفضها ويناصبها العداء ويعمل ضدّها.
لطالما أنّ هناك قاسماً مشتركاً حيال أمر جوهري، حيوي، مصيري يرتبط مباشرة بكل اللبنانيين، وهو الوضع المعيشي والمالي بكلّ تشعّباته، فلماذا نتجاهل هذا القاسم المشترك، والتضحية به، وإجهاضه بسبب الخلافات السياسية! لماذا لا نترك الجانب الذي يفرّقنا ولو لوقت، ولا نتمسك ونحافظ على الجانب الذي يوحّدنا ويجمعنا؟!
إنّ الهمّ الأول للبنانيبن اليوم، هو كيفية الخروج من مأساتهم، ومن مستنقع الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي القاتل. إذن، فلنضع الخلافات السياسية جانباً، ولنتوحّد حول هدف أساسي، لمواجهة عصابة الفاسدين، ووضع حدّ للفساد، وملاحقة زمرة العابثين بالدستور، والقانون، والقضاء، وكرامة المواطن.
هذه هي أولوية كلّ اللبنانيين، بدل أن يتوهوا ويضيعوا في دهاليز التنظير والاجتهاد السياسي، وتبادل الاتهامات، وتقاذف الإدانات بين بعضهم البعض، والتخوين دون ضوابط أو حدود، وإقامة الحواجز النفسيّة، والتراشق براجمات الألفاظ النابية التي غالباً ما تخرج عن القيم، واللياقات والأصول.
هناك دول وشعوب كثيرة في العالم واجهت تحديات وأزمات مصيرية، وأوضاع خطيرة، استطاعت أن تواجهها بوحدة الشعب. الجزائريون كانت لهم أولوية وطنية، وهي مقاومة الاحتلال لنيل الاستقلال وتحرير بلدهم من المحتلّ الفرنسي قبل أيّ موضوع آخر. لذا كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي ضمّت في صفوفها كلّ الأفرقاء المقاومين الذين التقوا على هدف واحد لا مجال للخلاف حوله، وهو تحرير الجزائر. أما باقي المسائل فقد وضعت جانباً الى ما بعد التحرير، وليكن في ما بعد لكلّ حادث حديث.
ألم تضمّ جبهة الفيتكونغ كلّ الفصائل الوطنية من مختلف التوجهات السياسية، لمحاربة الأميركيين! ألم يكن هدفها الرئيس وقتها، هو تحرير فيتنام من الوجود والاحتلال الأجنبي! ألم تضمّ ثورة جنوب اليمن المحتلّ كلّ الفصائل والتنظيمات في جبهة واحدة لمقاومة الاحتلال البريطاني، دون الغوص في الاختلافات الفكرية والعقائدية والمذهبية؟! ألم تضمّ المقاومة الفرنسية كلّ الأطراف السياسية الوطنية المختلفة لمقاومة الاحتلال النازي لبلدها، وجعل موضوع تحرير فرنسا أولوية لها؟! ألم يلتق ماو تسي تونغ وتشان كاي شك في جبهة عسكرية واحدة لاقتلاع الاحتلال الياباني للصين، رغم العداوة والخلافات العقائدية الجذرية بين الزعيمين الصينيين اللدودين، والتي أخذت أبعادها بعد تحرير الصين من الاستعمار الياباني؟!
لماذا يصرّ اللبنانيون على تسييس قضاياهم الاقتصادية والمالية والصحية والاجتماعية، ليخرجوا بعد ذلك مأزومين، متفرقين، فاشلين، محبطين، يائسين، وهم السبب في كلّ ذلك! لماذا لا تتوحّد كلّ الأطراف حول القاسم المشترك، وبعد أن تحقق إنجازاتها الحيوية المصيرية، سيكون من السهل بعد ذلك إيجاد قواسم مشتركة أخرى مبنية على التفاهم والثقة المتبادلة والنيات الطيبة، لتذليل العقبات والخلافات السياسية والاختلافات الفكرية والعقائدية…
لماذا لا نأخذ العبرة من تجارب الشعوب، بدلاً من أن نضع الحواجز بين أبناء الشعب الواحد الذي يعاني من مصائب وضغوط، وقهر وذلّ مشترك؟!
لا بدّ من اللبنانيين والفعاليات على الأرض ـ وهذه مسؤوليتهم الكبيرة ـ إعادة النظر في تفكيرهم، وممارساتهم، وسلوكهم، وأدائهم، ونهجهم حتى يحققوا لأنفسهم ولوطنهم الإنجازات المشتركة التي ينتظرها اللبنانيون بفارغ صبر !
ألا يستحق لبنان من هؤلاء جميعاً أن يترفعوا عن الأنانية والتفرّد بالرأي والقرار، ويضعوا الوطن والشعب فوق كلّ اعتبار، أسوة بالشعوب الحية الأخرى، ليزيحوا عن كاهل الوطن وشعبه المعذّب، تحالف الإقطاع السياسي والمالي والخدمي، وكابوس الاحتكار والاستغلال والقهر والإذلال؟!
إنها أولوية اللبنانيين اليوم للوقوف وقفة واحدة من أجل إنقاذ ما تبقى من البلد ومؤسساته، وتحريره من تسلط واستبداد طبقة الفاسدين والمستغلين.
لا يتوهّم المواطن اللبناني أنه من دون استئصال الفساد، وكشف ومحاكمة لصوص البلد وماله، سيخرج من أزماته وأحواله السيئة.
لكن أن ينغمس اللبنانيّون في السجالات العقيمة والاصطفافات السياسية، فهذا لن ينقذهم من الأزمة الخانقة التي تكبت أنفاسهم وتدمّرهم رويداً رويداً. فعندما يجمّد مسؤول ما، تشكيل حكومة من أجل حصر تعيين وزيرين لنفسه، ثم ينقسم المواطنون بين مؤيد ومعارض، رغم معرفتهم المسبقة، أنّ المسؤول يريد مصادرة الوزراء لنفسه ولمصلحته ولحزبه، ولا يريد ان يكون الوزير للبنان وللصالح العام عندها نقول: إنْ لم يتفق اللبنانيون على القاسم المشترك الذي يوحدهم، وعلى مواجهة المصيبة التي تجمعهم، فلا إصلاح سيتحقق بعد اليوم، ولا فساد سيقتلع، وسيبقى الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر. وما على اللبنانيين حينئذ الا التحلي بالصبر، وتحمل النتائج الوخيمة للتصرفات والسياسات العبثية لمن ينوب عنهم ويمثلهم، وأيضاً انتظار المزيد من الظلم والقهر والإذلال!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق