الدولار الأميركي يحكم لبنان ويحتكر الدواء وحليب الأطفال…!
كلود عطية
المنظّمات الدّولية تحكم الشّعب اللبنانيّ بالدّولار الأميركي، وتحقق أعلى نسبة اختراق للمجتمع اللبناني في المدن والقرى والأحياء الشعبية والعشوائية والمخيمات السورية والفلسطينية كافة… كما استطاعت أن تخترق بالوظائف الوهمية المدفوعة بالدولار الأميركي، عقول الشباب من أعمار مختلفة ومستويات علمية متفاوتة.. وبالتالي تحوّلت إلى حلم وغاية ووسيلة حقيقية للبقاء والاستمرار بالنسبة للكثير من اللبنانيين الذين خسروا أموالهم ووظائفهم وباتوا مهدّدين بالفقر والعوز ومن ثمّ الرحيل والهجرة…
جاء ذلك، بعد أن شهد لبنان منذ صيف 2019 انهياراً اقتصادياً متسارعاً فاقمه انفجار مرفأ بيروت المروّع في الرابع من آب/ أغسطس 2020، وإجراءات مواجهة فيروس كورونا. وتخلّفت الدولة في آذار/ مارس 2020 عن دفع ديونها الخارجية، ثم بدأت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول خطة نهوض عُلّقت لاحقاً بسبب خلافات بين المفاوضين اللبنانيين الطائفيين المرتبطين بأجندات محلية وإقليمية ودولية.
الدولار الأميركي الذي قضى على الليرة اللبنانية بفعل فاعل مسؤول، وقاد حرب الحصار على لبنان.. احتلّ الفكر والثقافة وشوّه المعرفة والحقيقة.. فحوّل الآلاف من المواطنين إلى منصات صيرفة تتلاعب بسعر الصرف حتى الإدمان، وتقضي بالتالي على صورة الإنسان المثقف في لبنان.
كما وصل حصار الدولار إلى كل المنتجات الوطنية والإقليمية والأجنبية، وكلّ المؤسسات والشركات والمصانع وصولاً إلى الحرف والدكاكين وحتى الفلاحين.. حيث بات الجميع في لبنان يتحدث بلغة الدولار.. فحوّلهم إلى مجموعة محتكرين لكل متطلبات الحياة التي يعتاش عليها الناس العاديون… أما الاحتكار الأخطر الذي أصابهم في أخلاقهم فهو احتكار الدواء وحليب الأطفال!
من هذا المنطلق، وفي الوقت الذي يحذر فيه البنك الدولي، من أنّ لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، في غياب لأيّ أفق حلّ… نرى أنّ الدولة اللبنانية المأزومة الفارغة من مضمونها الأخلاقي بشكل كلي، تتقاسم فتات الدولارات من المنظمات وتحاول تصريفها بحفنات من الليرات ومن ثمّ تقوم بتوزيع بقاياها على آلاف العائلات التي تبحث عن رغيف الخبز في حاويات النفايات..
أما ما يثبت هذه الفضيحة المشتركة بين الحكومة اللبنانية والجهات المانحة، فهو مسودة وثيقة داخلية للأمم المتحدة، أعدّت لتحليل خيارات الأمم المتحدة للتعامل مع قضية سعر الصرف المتعلق بأموال المساعدات، حيث تبيّن أنها لا تصل إلى حيث يجب بسبب التضخم. وبدلاً من ذلك يتمّ استخدامها لدعم احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، الذي يقوم بدوره باحتكار الدولار الأميركي وسحبه من السوق بالطرق الملتوية وعبر منصات وهمية حقيقية من صنع حاكمه وأزلامه. كما تغطي هذه الوثيقة على هذه الفضيحة بالقول إنّ «في أزمة غير مسبوقة ومأساة إنسانية، يجب استخدام المساهمات بالدولار الأميركي لغرض مساعدة الأسر الضعيفة، بدلاً من إعادة رسملة القطاع المصرفي بالقوة، أو دعم الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي».
هي دولة الفراغ المشرعة لكل شيء، تقتل شعبها كل يوم.. أما قتلتها المأجورون فأبرزهم المحتكرون الذين يعيشون على تحويلات المغتربين بالعملات الصعبة وعلى احتكار الأدوية واللحوم والمواد الغذائيّة والوقود وغيرها، بالإضافة إلى المتاجرة بأرواح الناس وعقاراتهم وأموالهم المسجونة في مصارف السياسيين.. هؤلاء بات بالإمكان وضعهم في خانة الأعداء الحقيقيين إلى جانب الدولة التابعة الفاسدة والمنظمات الاستغلالية المخابراتية التي تنفذ أجندات واستراتيجيات حكوماتها المانحة والمموّلة لكلّ هذا الخراب..
يبقى المشهد المثير للاشمئزاز وللسخرية في بلد الذل، بالإضافة إلى سينما الطوابير أمام محطات البنزين والصيدليات والأفران.. رؤية معظم اللبنانيين يتخلّون عن مبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم وانتمائهم في سبيل العيش وضمان البقاء والاستمرار.. فالأستاذ الجامعي مثلاً، الذي تحوّل من الطبقة الوسطى إلى طبقة الفقراء، بات يبحث عن لقمة عيشه في أماكن أخرى خارج حدود هذا الكيان المريض.. والأمر نفسه بالنسبة للآلاف من موظفي القطاع العام بعد أن تحوّلت رواتبهم في معظمها الى ما دون الـ 200$ أميركي.. في الوقت نفسه نرى أن هناك طلاباً لم يتخرّجوا بعد، بل تخلوا عن دراستهم والتحقوا في مشاريع تابعة لمنظمات دولية يقبضون أربعة أضعاف معاش أساتذتهم…!
هكذا تحكم الدول الكبرى العالم.. حين تدمّر التعليم وتلغي إنتاج المعرفة وتشوّه صورة المثقفين والمبدعين.. وتحكم بأموالها الدول التابعة المنقسمة على ذاتها والمشتتة بين التبعية والطائفية والخلافات الداخلية السياسية الدنيئة التي لم ولن تبني وطناً يعيش فيه الإنسان بكرامة…