زيارة الوفد الفرنسي… إصلاح ما أفسدته حكومة هولاند!
د . تركي صقر
ما كان محرّماً ومحظوراً في التواصل مع الحكومة السورية خلال السنوات الأربع الماضية، بات مطلوباً ومرحّباً به، فالزيارة اللافتة لوفد برلماني فرنسي رفيع المستوى إلى دمشق تندرج في هذا السياق، ولو أنها تبدو ظاهرياً من خارج النصّ أو بعيداً من اتجاهات الرياح السابقة، ولا يقلل من أهميتها ما صرحت به الحكومة الفرنسية بأنَّ هذهِ الزيارةَ لا تَحمِلُ أيّ رسالةٍ رسميةٍ من الحكومةِ إلى دمشق.
فكيف تكون زيارة بهذا الحجم وهذا المستوى وفي هذا التوقيت، وهي الزيارة الأولى من هذا النوع منذ بداية الأزمة قبل نحو أربع سنوات، ولا تحمل مضموناً سياسياً أو دلالات رسمية؟ وهل يقصد الإليزيه أنّ الزيارة سياحية للاطلاع على الأماكن الأثرية في دمشق؟
لا يغيب عن بال أحد أنّ نشاطاً سياسياً خارجياً لوفد برلماني كبير، لا يمكن أن يتم خارج علم الحكومة الفرنسية التي كانت أكثر المتحمسين والمشاركين في حملة إركاع الدولة السورية أمام جحافل الإرهاب العالمي، لكنها اضطرت أخيراً إلى مراجعة حساباتها بعد سلسلة من الإخفاقات وتراكم الأخطاء التي أدت إلى وصول الوحش الإرهابي إلى عقر دارها.
ردّ النائب الفرنسي آلان مارسو على ترهات الخارجية الفرنسية حول زيارة الوفد، وحدّد بوضوح الغاية السياسية منها عندما قال: إنّ الأميركيين سبقونا إلى دمشق وهم لا يعطوننا المعلومات الأمنية المأخوذة من سورية إلا بالقطارة، فلماذا لا نأخذها مباشرة ؟
لذلك، لا بدّ أن يكون الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قد أعطى الموافقة الضمنية على هذه الزيارة، ولا سيما أنّ الوفد يضمّ رئيس لجنة الصداقة السورية ــ الفرنسية في مجلس النواب النائب عن الحزب الاشتراكي الحاكم جيرار بابت، وكانت الداخلية الفرنسية استبقت الزيارة بسحب جوازات سفر ستة من مواطنيها، في إطار الإجراءات الجديدة لمكافحة الإرهاب والحدّ من التحاق الفرنسيين بتنظيم الدولة الإسلامية المتطرف في سورية والعراق وتنظيمات إرهابية أخرى، وهناك قائمة تضم أسماء عشرات الأشخاص الذين تنوي السلطات الفرنسية سحب جوازات سفرهم للسبب ذاته.
لا يمكن أن توضع زيارة الوفد الفرنسي، كما زعمت الخارجية الفرنسية، في إطار المبادرة الفردية أو النشاط الذاتي، ولا يمكن إدراجها بعيداً من سياسة المراجعة والتراجع وتصحيح الأخطاء التي فرضتها على الدول الغربية معادلات الميدان العسكرية المستجدّة في الجغرافية السورية لصالح الدولة الشرعية وما تحققه من نجاحات كبرى على صعيد ضرب التنظيمات الإرهابية على يد الجيش السوري، ما جعل دولاً أوروبية عديدة تضع خططاً لطلب تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الجهات الأمنية السورية التي باتت تملك أهم بنك معلومات «داتا» في العالم عن الإرهابيين، أشخاصاً وتنظيمات وأساليب عمل وحركة.
فرضت المعطيات الجديدة على الحكومات الغربية إعادة النظر في مواقفها تجاه ما يجري في سورية والمنطقة، وبالنسبة إلى الحكومة الفرنسية، ورغم المكابرة والتعنت، فإنّ مذبحة مجلة «شارلي إيبدو» في قلب باريس أجبرت فرنسا على الاعتراف بخطأ سياستها المنحازة إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة تحت مسمّيات مزيفة حول الثورة والحراك السلمي المعتدل، ووضعتها أمام ضغوط هائلة من الشارع الفرنسي الذي تأكدت لديه حقيقة ارتداد الإرهاب إلى العواصم الأوروبية المدعوم عملياً بشكل أو بآخر من حكومات غربية بعينها، فاستفاقت هذه الحكومات على حركة شعبية مناهضة لسياساتها، ووسط هذا الحراك الشعبي المناهض والمطالب بالتصحيح، كان لا بدّ أن تنتقل هذه المبادرة إلى البرلمانات والقوى السياسية لزيارة سورية بعد الوفد الفرنسي الذي كان سبّاقاً إلى فتح الطريق إلى دمشق.
ليس من المبالغة السؤال عمّا إذا كانت دمشق ستعود قبلة لحراك ديبلوماسي وسياسي لا يهدأ، فزيارة الوفد الباكستاني العاصمة السورية تزامنت مع زيارة وفد فرنسي رفيع، وسط تزايد الانتقادات لسياسة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس، ويبدو جلياً أنّ الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا، لم تتحسّس الخطأ، إلاّ بعد أن لدغها عقرب الإرهاب وساور مؤسساتها المعنية بالأمور الأمنية الداخلية القلق الشديد، وقد اضطرت فرنسا قبل زيارة الوفد الحالي، وأكثر من مرة، إلى إرسال إشارات غزل إلى دمشق لإعادة تفعيل التنسيق الأمني معها، وآخرها تمثل في زيارة وفد أمني فرنسي إلى العاصمة السورية عام 2013. وفي السياق ذاته، تأتي زيارة الوفد الجديد لتدخل في العمق فهي ليست مجرد إشارات وإنما هي للاستطلاع الجادّ وجسّ نبض دمشق حول إمكانية تبادل المعلومات الأمنية في شأن التنظيمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش» الذي باتت مخاطره تشكل رعباً حقيقياً للمواطن الأوروبي، بعد العمليات المتواصلة التي استهدفت أكثر من دولة أوروبية واسكندنافية، وبعد أن بدأت حملة حجب المواقع الإلكترونية الخاصة بالتنظيمات المتطرفة تتصاعد.
وإذا كانت الاستخبارات تعني العيون على الأرض، فإنّ الأرض السورية في معظمها تحت نفوذ الدولة وسيطرتها، وهذا الأمر جعل المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا يبادر، ولو متأخراً، إلى الاعتراف رغم اعتراض باريس وواشنطن ولندن، بأنّ الرئيس بشار الأسد يمثّل جزءاً من الحلّ للأزمة السورية، وبالتالي لا حلّ من دونه وهذا ما عاد وأكده النائب في البرلمان الفرنسي جاك مِيار في بيروت، معتبراً أنّ على المجتمع الدولي أن يتعاطى مع الرئيس الأسد على أنه جزء من الحلّ السياسي في سورية. وشدّد على «ضرورة أن تدرك حكومة باريس أنّ الحالة السياسية والاستراتيجية في سورية، قد تبدلت وأنّ العلاقات الديبلوماسية لا تعقد فقط مع الدول التي نحب، إنما هناك ضرورات ديبلوماسية تفرضها.
فهل ستكون زيارة الوفد البرلماني الفرنسي إلى دمشق بداية الطريق لعودة الحكومات الغربية عن أخطائها وخطاياها في حقّ سورية وشعبها؟
tu.saqr gmail.cim