الأمين وليم بحليس أحد وجوه الجالية ومن مؤسّسي العمل الحزبي في البرازيل
ثلاثة من عكار كان لهم دور مميّز في تأسيس العمل الحزبي في منطقة المثلث الميناوي من ولاية ميناس جيرايس في البرازيل، فلا يصح أن نحكي عن الواحد منهم ان لم نذكر الآخر ونعني بهم الأمين وليم بحليس(1) والرفيقين ابراهيم حبيب طنوس من دير دلـوم، ونقولا داود من جبرايل، وإذا كان الرفيقان طنوس وداود نشطا في تأسيس الفروع في منطقة المثلث فإنّ الأمين وليم وقد انتقل إلى سان باولو بطلب من سعاده، وأقام فيها، فقد تولى مسؤولية المنفذ العام وكان بحق أحد أبرز المسؤولين القوميين الاجتماعيين في البرازيل وقد بقي منفذاً عاماً لها ما يناهز الـ 14 عاماً وركناً من أهمّ أركان الجالية، بقيت صداقاته قائمة وقد عرفتُ ذلك بنفسي عندما زرت البرازيل في الثمانينات فسمعت عنه في أوساط من عايشوه من شخصيات أدبية واجتماعية واقتصادية وعرفت كم كان له من حضور ومن احترام، وكم كانت شخصيته ذات تأثير في محيطه.
الحديث عن سعاده وعن الحزب في البرازيل لا تلخصه محاضرة ولا كتاب، وإذا كان الأمين نواف حردان قد سلّط الضوء على فترتي تواجد سعاده في البرازيل،
الأولى في مطلع شبابه وقبل تأسيسه للحزب من العام 1919 حتى العام 1930 عندما عاد إلى الوطن،
والثانية في العام 1938 عندما مرّ بها متوجهاً إلى الأرجنتين، وذلك في الجزءين الأول والثاني من كتابه «سعاده في المهجر» فإنّ امتداد الحزب في البرازيل في الثمانينات وغنى تاريخه والدور الناشط الذي قام به على مدى السنوات الطوال، كما تميّز العديد من أعضائه على صعيد الحزب كما الجالية في مختلف أنديتها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والأدبية، إّن كلّ هذا يحتاج إلى انكباب كثير وإلى مجلدات يسطر فيها الباحثون أسطورة هذا الحزب العظيم على امتداد بلد هو كالقارة اتساعاً ومساحة.
في هذه الكلمة، نقتصر الحديث على الأمين وليم بحليس ورفيقيه ابراهيم حبيب طنوس ونقولا داود، عسانا نضيء بالقليل على الكثير الكثير مما كانوا عليه.
ولد الأمين وليم بلحيس في بلدة منيارة في العام 1906، درس في طرابلس ثم اضطرته ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى مغادرة وطنـه عـام 1925 إلى منطقة المثلث الميناوي في البرازيل فأقام في إحدى محطات السكة الحديدية تدعى «الميدا كمبوس»، وصدف أنّ مواطناً آخر من عكار هو ابراهيم حبيب طنوس كان يقيم في محطة أخرى تبعد 20 كلم تدعى سانتا جوليانا، فتعارفا، وكانا – كالعديد من المواطنين السوريين الذين غادروا إلى البرازيل – يتابعان عبر الصحف الاغترابية أخبار الوطن، ومن أبرز هذه الصحف جريدة «الرابطة» التي كان يرأس تحريرها والد سعاده، العلامة الدكتور خليل، والتي كانت مقالاته فيها تحدث دوياً في أوساط الجالية لما كانت تتضمّنه من عمق في التحليل ومن مواقف وطنية.
يقول الرفيق ابراهيم طنوس «في سان باولو أهداني أحد المواطنين عدداً من جريدة «الرابطة»، لا أدري كيف شعرت بقرابة روحية عندما طالعت مقالاً للدكتور خليل سعاده ينبض بحب الوطن ويصف الويلات التي يعانيها الشعب وتأخر الأمة السورية في التحرر والتقدم».
وهكذا راح الرفيق ابراهيم كلما توجه إلى سان باولو يزور مقرّ جمعية الرابطة الوطنية السورية التي كانت تصدر جريدة «الرابطة» وعهدت إلى الدكتور خليل برئاسة تحريرها. «فكنت أحسّ بإعجاب الجميع بالدكتور خليل وبما يتمتع به من ذكاء وقاد وفكر ثاقب وثقافة عميقة واسعة».
عام 1935 بعد انكشاف أمر الحزب من قبل الفرنسيين وإلقائهم القبض على سعاده حدثت ضجة بين المغتربين السوريين في البرازيل وسرت موجة من الاستنكار وإلى جانب ذلك كان الإعجاب كبيراً بنجل الدكتور خليل، الشاب أنطون الذي عرفته الجالية يافعاً قبل عودته إلى الوطن، خاصة وقد نشرت «الرابطة» تفصيل محاكمة الزعيم في المحكمة العسكرية ووقوفه أمامها موقفاً جريئاً شجاعاً مجابهاً.
عام 1938 عندما وصل الزعيم إلى البرازيل قرأ الرفيق ابراهيم طنوس في جريدة «دياريو دي سان باولو» خبراً عن قدوم سعاده وكيف استقبلته الجالية بكلّ حفاوة وحماس وأنزلته ضيفاً عليها في فندق «اسبلانادا» فقرّر التوجه إلى سان باولو للتعرّف إلى سعاده هو المعجب به والمتابع لأخباره، ولدى مروره بمحطة «الميدا كمبوس» أعلم صديقه وليم بحليس بما قرأ وأنه متوجه إلى سان باولو ليتعرّف شخصياً إلى سعاده.
لم يجد الرفيق وليم من يستلم عنه عمله كي يرافق الرفيق ابراهيم إلى سان باولو فرغب إليه أن ينقل له عند عودته نتائج لقاءاته بسعاده.
في سان باولو التقى ابراهيم طنوس الزعيم، وبعد لقاءات معه، كما مع ناموسيه أسد الأشقر وخالد أديب انتمى إلى الحزب وغادر سان باولو وهو يحمل تفويضاً من الزعيم يؤهّله إدخال المواطنين الصالحين في الحزب.
سمع الأمين وليم من الرفيق ابراهيم وصفاً بليغاً لشخصية الزعيم وشرحاً لمبادئ الحزب، ثم أعطاه نسخة من التعاليم فقرأها بتمعّن وأبدى رغبته بعد ذلك بالانتماء إلى الحزب، ثم أدّى القسم الحزبي.
وراح الرفيقان وليم وابراهيم ينشران المبادئ ويدعوان المواطنين إلى النهضة، فلاقت دعوتهما القبول وانتمى العشرات من المواطنين وتمّ إنشاء ثلاث مديريات في كلّ من مدن أراشا، اوبرلنديا واراغواري في منطقة المثلث الميناوي.
ومن ثمرة نشاطهما انتماء الرفيق نقولا داود وهو من مواليد جبرايل عام 1903 وقد غادرها عام 1925، ومثله انتمى العشرات ومعظمهم من أبناء عكار، أمثال عبود اندراوس من بينو، عبد القادر بكر من مشحى، جرجس الراسي، ساسين جرجس، حبيب يوسف الخوري، يوسف نادر، حبيب المعماري، فارس الخوري من جبرايل، وكثيرون غيرهم، وراح الحزب ينمو وينتقل إلى بلدات أخرى محيطة.
في هذا الوقت، وفي مكان آخر، كان ينتمي الرفيق نجيب العسراوي في مدينة بلو لوريزونتي (ومعناها الأفق الجميل) وهذه عاصمة ولاية ميناس جيرايس، وفي شهر أيلول عام 1940 تأسست منفذية للحزب تولى الرفيق نجيب مسؤولية المنفذ العام، والرفيق وليم بحليس نظارة الإذاعة، إضافة إلى تعيينه مذياعاً عاماً صلاحياته نشر مبادئ الحزب والقيام بالدعاية له في كلّ مكان، ويتبع مباشرة عمدة الإذاعة، أما الرفيق ابراهيم طنوس فعين ناظراً للثقافة.
وراحت المنفذية التي تشكلت لكلّ ولاية ميناس جيرايس تنشط في كلّ الولاية، وامتد نشاط الرفيقين بحليس وطنوس الذي كان بدأ في المثلث الميناوي من الولاية إلى أنحائها كافة لتشهد قيام فروع للحزب في العديد من المدن والبلدات.
في 9 كانون الثاني 1941 تلقى الرفيق وليم أمراً من سعاده، وكان قد استقر في الأرجنتين، بالانتقال إلى سان باولو لمعالجة أزمة طرأت على جريدة «سورية الجديدة»، وتولي إدارتها، فلبّى الأمر فوراً.
في 25 شباط والرفيق وليم يدير شؤون «سورية الجديدة» وينعش روحية الرفقاء بقدوته وإيمانه وحيويته، تلقى خبراً من عائلته التي كانت بقيت في مدينة اوبرلنديا في المثلث الميناوي (حيث فيها جالية كبيرة من عكار) مفاده أنّ ولده الوحيد قد مات، فسقط عليه الخبر كالصاعقة ثم أسرع لمغادرة سان باولو ليكون إلى جانب زوجته المفجوعة وليودع ابنه الوداع الأخير.
عشرة أيام فقط قضاها في اوبرلنديا، ثم عاد إلى سان باولو ليتابع القيام بواجبه في «سورية الجديدة».
عندما علم الزعيم بذلك تأثر وقدّر تضحية الرفيق وليم حق قدرها فكتب له رسالة هذا بعض ما جاء فيها:
«رفيقي العزيز وليم بحليس
«وقع عليّ نعي ابنك كما وقع عليك مع فارق القرابة الدموية، وكان شعوري نحوك عظيماً، وكم وددت أن أكون معك في وسط هذه الشدة، وثق اني أكبرت تصرّفك الذي أصبح أحد الأمثلة الجلية على سلوكية جديدة متفوّقة تشقّ طريقها لتعطي الحياة معان وقيماً جديدة أسمى مما عرف في وسطنا حتى الآن».
«إنّ سلوكك لم يكن أقلّ مما توقعت منك، فقد كنت موقناً بسمو نظرتك الجديدة إلى الحياة، وبشعورك الصحيح بمعنى الواجب وبصبرك على التضحية في سبيل نصرة مثال أعلى لأمة بأسرها. كنت واثقاً من أنك تعرف كيف تتألم وتعمل، وكيف تكون في تألمك وعملك قدوة السلوكية الجديدة للكثير من أبناء أمتنا ولم تخب ثقتي بك «.
«إنّ موقفك يدلّ على معدنك. ومنه يشعّ نور سيبصر به الكثيرون طريق المناقب الجديدة».
ثم يكتب له رسالة أخرى بتاريخ 17 آذار يقول له فيها:
«إننا نتألم ولكننا لا نذلّ ولا ننسحق، واعلم أنّ سلوكك قد أصبح قدوة بين القوميين ومثلاً في الروح القومية السامية. فإلى الأمام… ولتحي سورية”.
نجاحه في معالجة الأزمة في جريدة «سورية الجديدة» وإدارته لها بكفاءة، جعل سعاده يفوّضه بتنظيم فرع الحزب في سان باولو، ثم ما لبث أن أصدر في 17/11/1941 مرسوماً بإنشاء منفذية في سان باولو وتعيين الرفيق وليم منفذاً عاماً لها، فيما تحوّلت ولاية «ميناس جيرايس» إلى مفوضية مركزية على رأسها الرفيق نجيب العسراوي ومتصلة مباشرة بمركز الحزب.
وهنا راح الرفيق وليم يكشف يوماً بعد يوم عن كفاءات مميّزة ليس فقط بشخصيته القوية الآسرة ولا بعمق ثقافته أو بقدرته البالغة على الإدارة الحازمة الصارمة، إنما أيضاً بسلوكيته القدوة وبحديثه الشيّق الممتع، وبحكمته التي عرف بها كيف يحافظ على ألق الحزب كما أرساه سعاده، ويجعله مرجعاً في الجالية، له الاحترام والتقدير والكلام الفصل في العديد من الأمور.
طيلة سنوات 1941-1947 كانت الرسائل متبادلة بين سعاده والرفيق بحليس، وكانت آخر رسالة يوجهها له من الأرجنتين هي المؤرخة في 12/1/1947 التي بها يبلغ سعاده المنفذ العام الرفيق وليم بأنه يستعدّ للعودة إلى الوطن وسيعرج بطريق العودة إلى البرازيل.
وكان اللقاء الحار في مطار سان باولو في 18/1/1947 حيث هرعت إليه جموع القوميين الاجتماعيين وأبناء الجالية يستقبلون سعاده بعد طول غياب.
بقي الرفيق وليم ملازماً لسعاده طيلة فترة إقامته في البرازيل، رافقه أثناءها لزيارة مديرية الحزب في كلّ من مدينتي السانطوس والريو دي جانيرو، حتى أواسط شهر شباط عندما غادر سعاده البرازيل متوجهاً إلى الوطن وعيون الرفيق وليم، كما الرفقاء، تنظر إليه نظرة الوداع الأخير.
ومثلها كانت رسالة سعاده الأخيرة إلى الرفيق وليم يوجهها إليه من القاهرة في 20 شباط 1947 بانتظار أن يستقلّ الطائرة إلى الوطن حيث سيخوض حربه مع قوى الرجعة والمتآمرين على وطنه، وليسقط شهيد إيمانه والعقيدة التي أعطى للأمة.
وتلقت الجالية في البرازيل نبأ اغتيال سعاده بعاصفة من الاستنكار الشديد، وتحركت المنفذية كما كلّ فروع الحزب في الاغتراب، تدين وتشجب وتتهيّئ لرفد الحزب بكلّ ما يدعم نضاله ضد الطغمة الحاكمة، ووجه الرفيق وليم بحليس بصفته منفذاً عاماً، برقية إلى بشارة الخوري يقول فيها: « نحن لا نبكي سعاده، لأنه حي في قلوبنا إلى الأبد، نحن نبكي وطناً أصبح مدفناً للرجال الرجال ومأوى للكواسر والأذلاء أمثال رجال الحكم فيه. التاريخ سيقول كلمته فيكم، كما سيقولها عن سعاده، خسئتم».
عام 1954 منح المجلس الأعلى في الحزب الرفيق وليم بحليس رتبة الأمانة تقديراً لنضاله الفذ وإيمانه ونجاحه في مسؤولياته، واستمرذ مسؤولاً أولاً عن الحزب في البرازيل حتى العام 1955 عندما وافته المنية وله من العمر 49 عاماً، فشيّعته الجالية بأسرها، والسوريون القوميون الاجتماعيون، وسط حزن شامل وتقدير كبير للأمين الذي كان قدوة في النضال والمسلكية والالتزام الواعي بالعقيدة التي آمن بها بكل وجوده.
وتقديراً للأمين القدوة قام الوفد الحزبي الذي زار المغتربات عام 1959 بعد انتهاء الحوادث الدامية صيف العام 1958، بزيارة ضريح الأمين بحليس في سان باولو وهناك وقف الوفد ومعه الرفقاء يؤدون التحية.
ومثلهم فعلتُ في 8 تموز 1983 عندما زرت ضريح الأمين وليم برفقة الأمينين ألبرتو شكور ونواف حردان وعدد من رفقاء سان باولو، لنعلن أن من يمت في سبيل قضيته يبقى حياً وان واراه التراب.
ولأنه حي، نحكي عنه اليوم بعد غياب 46 عاماً(2)، وسنحكي عنه دائماً وتحكي أجيالنا، فإنّ من أعطى حزبه وأفنى نفسه في سبيل أمته، يبقى حياً ما دامت يد ترتفع بالقسم، وما دام قلب يهتف بالحياة، وجيل ينمو ليأخذ الرسالة عن جيل، وتستمر المسيرة.
هامش:
ـ مراجعة النبذة المعممة عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
ـ أعدّت هذه النبذة عام 2001.