مدحت عكاش الرئيس والشاعر والمربّي…
} الأمين سمير رفعت
أحسد الأمين الجزيل الاحترام لبيب ناصيف كيف استطاع نقل هاجسه في استخراج كنوز التاريخ الحزبي الى عدد لا بأس به من الرفقاء فصار هاجسهم تزويد صفحة مرويات قومية ببعض ما يعرفون من هذا التاريخ المشرّف ولو بدرجات أقلّ من لهفة وتوق الأمين لبيب صائغ المجوهرات الثمينة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي.
فبالأمس التقيت الرفيق كمال ذبيان في نزلة «أبو طالب» آخر شارع الحمراء ببيروت، وكأني التقيه للمرة الأولى لشدة ما لمست غبطته وفرحه الغامر وهو يغادر منزل الرفيق حسن زين صاحب كتاب «قبل ان ننسى» وفيه بعض ذكرياته مع حضرة الزعيم حين التقاه في القاهرة صدفة، الرفيق زين يبلغ من العمر الآن 97 عاماً لكن ذاكرته في اللقاءات الثلاث مع سعاده ما زالت غضة وكأنها البارحة.
أعود الى الرفيق كمال ذبيان الذي رأيته يقفز فرحاً لأنه حصل على بعض ما يكتنز الرفيق حسن زين من معلومات وصور، رغم عتبي في بعض الأحيان على الرفيق كمال لأنه يذيع في جريدة «الديار» بعض خصوصيات الحزب، لكني فرحت كثيراً حين لمست فرحه الشديد وطلب مني أن أقرأ ما كتب في «الديار» عن هذا الموضوع.
أعود أيضاً الى الأمين لبيب ناصيف الذي حمّلنا همّه الرائع في تدوين بعض ما يغني التاريخ الحزبي، وفي صفحة مرويات قومية يوم الأربعاء الرابع عشر من نيسان 2021 كتب عن الشاعر نبيه سلامة قطعة أدبية جميلة يستحقها شاعرنا الحمصي.
وفي المقال ذكر للأستاذ مدحت عكاش صاحب ورئيس تحرير مجلة الثقافة الشامية، تلك المجلة الخاصة التي كانت ملتقى الأدباء والشعراء خاصة جيل الشباب منهم، ليس على صفحاتها فقط بل في حديقتها الجميلة ومكاتبها في حارة صخر بدمشق، وكان الأستاذ مدحت الرفيق السابق الصخرة التي يستند اليها محبّو الأدب والشعر والثقافة.
وحين قرأت الموضوع الذي تناول الشاعر المهجري سلامة هالني أن أقرأ اسم الأستاذ مدحت عكاش وقد طاله خطأ مطبعي فأصبح «عكاشه» وهذا الخطأ نسبه الى الأمة المصرية بينما هو من الأمة السورية حتى النخاع ومن حماة مدينة النواعير، فاتصلت بالأمين لبيب أصوّب الاسم كوني أعرف الأستاذ الرفيق السابق مدحت عكاش جيداً، فرغب إليّ أن أدوّن ما أعرفه.
تعود معرفتي بالأستاذ عكاش الى العام 1955 من القرن المنصرم حين انتسبت الى كلية دمشق الأميركية، تلك الكلية التي تأسّست في خمسينيات القرن الماضي وكان يديرها حفيد المستر بلس رئيس ومؤسس الجامعة الأميركية في بيروت، وكانت تسمّى بالأصل الكلية الإنجلية السورية. وكان الأستاذ مدحت عكاش أستاذ اللغة العربية وآدابها في تلك الكلية ولم يكن أستاذاً فقط بل ككلّ الأساتذة الذين تعمّدوا في كنف النهضة القومية الاجتماعية، كان مربياً وهادياً ومرشداً، وكان أستاذ أخلاق قبل ان يكون أستاذ لغة عربية فقط.
ومن محطاتي الكثيرة والثره معه أذكر انني كنت عائداً الى بيتي في شارع أبو رمانة الذي يبعد أمتاراّ عن الكلية، حين وجدت أحد الأشخاص وقد أحضر لنا بعض الحاجيات من الدكان، فأستلفت دراجته ورحت أدرج بها قرب رصيف البيت حتى وجدت الأستاذ مدحت عكاش مارّاً فنزلت عن الدراجة، حييته بكلّ احترام وحين تجاوزني عدت وركبت الدراجة. وفي اليوم الثاني وبعد ان دخلت الصف ننتظر دخول الأستاذ عكاش دخل وبدأ حديثه بأن منحني 100 علامة في اللغة العربية، استغرب الطلبة زملائي لأننا لم نجر امتحاناً لكي أحصل على هذه العلامة، عندها أجاب الأستاذ عكاش: سمير رفعت أجرى امتحاناً في الأخلاق، بالأمس شاهدني وهو يمتطي دراجة، نزل عنها ثم حيّاني باحترام.. لذلك فهو أجرى امتحاناً في الأخلاق، احتراماً للأستاذ… هكذا كان الطلاب وهكذا كان الأساتذة.
وفي حادثة أخرى كان الأستاذ عكاش يدوّن بيتاً من الشعر على اللوح الأسود لكي نقوم بإعرابه.. كتب الشطر الأول من البيت وتوقف يستذكر الشطر الثاني فقمت أنا بتذكيره به، دوّن ما قلت له ثم قال: لسمير مئة علامة باللغة العربية وعليه ان يخرج من الصف.. نفذت الأمر بينما زملائي أبدوا استغرابهم لهذا التناقض، حينها برّر الأستاذ عكاش بأن قال لهم: عجز البيت الذي لقنني إياه زميلكم سمير رفعت هو من تأليفه وليس العجز الأصلي لهذا البيت، فالتقدير الذي ناله أثبت أنه شاعر بالفطرة، والعقوبة لأنه ظنّ أني لن أنتبه الى هذه المفارقة.
وبعد أن غادر الأميركيون كلية دمشق الأميركية، وأصبح اسمها ثانوية دمشق العربية وكانت في ساحة المدفع في شارع أبو رمانة. أصبح الأستاذ مدحت عكاش شريكاً فيها وفي إدارتها وكان مثال المربي الأستاذ المعلم المرشد.. وكثيرون يدينون له بكلّ كلمة عربية ينطقونها.. وحين ترك مهنة التدريس تفرّغ لمجلة «الثقافة» تلك المجلة الرائدة التي كانت ملتقى الأدباء والشعراء في الشام.