ثقافة الانتخاب في سورية… وانتخاب الرئيس القائد

د. رآفات أحمد

يُقصد بثقافة الانتخاب: الوعي الذي يجب أن يمتلكه الفرد للمشاركة في عملية انتقاء أشخاص لمناصب معينة يتمتعون بالأهلية والكفاية اللازمتين لتحقيق غايات ينشدها أفراد المجتمع. يتضمّن هذا الوعي القدرة على اختيار الأفضل من بين مجموعة من المرشحين ممّن يتمتعون بصفات معينة محدّدة بموجب القوانين المرعية في المجتمع.

يعدّ السلوك الانتخابي ظاهرة بشرية حضارية قديمة جديدة باتت من الأهمية الآن بما لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة السياسية والدستورية فهي وسيلة إضفاء الشرعية على حكومة ما كونها انبثقت من رغبات أفرادها المتمتعين بهذا الحق في مجتمع ما.

يخطئ من يعتقد أن ثقافة الانتخاب منفصلة عن الثقافة التربوية والاجتماعية السائدة في مجتمع ما فهي جزء أساسي من طبيعة العلاقات المسموح بها داخل الأسرة. فعندما يُمنع على أفراد الأسرة التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، ويمنع عليهم ممارسة حرياتهم الشخصية والتمتع باستقلاليتهم الشخصية في ما يتعلق بحياتهم اليومية، ونشاطاتهم الاجتماعية المتعلقة بالدراسة، واختيار الرفاق، والمستقبل، واختيار شريك الحياة، فعن أيّ سلوك انتخابي يمكن لنا أن نتحدث في هكذا مجتمع؟

تُعتبر التجربة السورية في مجال نشر ثقافة الانتخاب تجربة فريدة ورائدة تنطلق من مبادئ تجسّدت على أرض الواقع في محطات هامة من حياة المواطن السوري، تبدأ من أيامه الأولى في مدرسته إلى سنوات نضجه في مرحلة الشباب لتضع اللبنات الأساسية للسلوك الانتخابي ولثقافة الانتخاب. فلِمَ تختلف تفاصيل الحملة الانتخابية في سورية عنها في دول الغرب؟

يُعاب على التجربة السورية من قبل بعض منظري الديمقراطية أن ثقافة تجديد البيعة تسيطر على السلوك الانتخابي في سورية، وهذا في حقيقة الأمر شهادة لها وليست عليها، فآلية انبثاق القيادة في زمن التحرّر الوطني تخضع عموماً لمفهوم الانتخاب الطبيعي وتكرّسه اللعبة الديمقراطية التي يراها الكثيرون شكلية، وهي في الواقع ضرورة للتكريس الدستوري، لكنها ومن كلّ بدّ لا تصنع القائد.

إنّ سيطرة ثقافة اختيار القائد أو تجديد البيعة حالة طبيعية في أيّ بلد أو جماعة تعيش حالة اللاحرب واللاسلم مع عدو غادر شغله الشاغل وبشكل يومي: إنهاء وجود خصمه. هي ثقافة مطلوبة وموجودة باستمرار في عالم الثورة وفلسفة المقاومة. فالقائد قائد بشخصه وحنكته وقوته وقدرته على اجتراح النصر لشعبه من براثن المؤامرات والمخططات، القائد لا ينافس على قيادته ولا يطلبها أو يستجديها بل تفرضها معطيات قيادته في أي صراع.

ترتبط ثقافة تجديد البيعة بحالة انتخاب الرئيس القائد وليس انتخاب الرئيس الشكلي المُقاد بلوبي ضاغط كما هي الحال في أميركا وفرنسا، ولا انتخاب ملك شكلي يقوده رئيس حكومة كما في بريطانيا، ولا انتخاب ملك مهمّش لشعبه في ظلّ غياب الدساتير الحافظة للحقوق والواجبات كالممالك العربية. الرئيس القائد قائد للوطن والجيش والشعب، قائد وطني قومي حامل همّ قضية وطن وقضية مقاومة، قائد حام لفكر المقاومة نهجاً وممارسة.

إنّ معايير الديمقراطية التقليدية ليست وحدها التي نحتاجها في زمن الصراع، فأيهما يجب أن يخضع للآخر الأمن القومي أم الديمقراطية؟

إنّ طبيعة الصراع في المنطقة لا تسمح بديمقراطيات شكلية تؤدي لوصول تابعين ومسحوقين ومجندين لحسابات إقليمية خارجية بالوصول إلى سدة القيادة، ولا أقول سدة الرئاسة، فواقع المنطقة وحيثيات الصراع على الوجود يحتاج إلى قادة أمة وفكر ونهج كما كان حال تشي غيفارا ومانديلا وتشافيز وعبد الناصر والأسد الأب والسيد نصرالله… والآن الأسد الابن. ولا يحتاج لموظفي رئاسة يقبضون أثمان مواقفهم وينتظرون أوامر أسيادهم.

من هنا أتت فرادة التجربة السورية التي تنبع من جوهر الصراع العربي ـ الصهيوني بشكل عام، والسوري منه بشكل خاص، المتمثل بوجود عدو تاريخي على بعد عدة كيلومترات من العاصمة السورية، عدو غير تقليدي، صراعه مع محيطه هو قضية وجود وليس قضية حدود، عدو يقظ يعمل ليل نهار على تدمير وإلغاء وجود خصمه من خلال تطبيق تعاليم بروتوكولات وقواعد صارمة وضعها حاخاماته لرسم أفق السياسة الصهيونية في أي مكان وزمان.

لعل من أهم ما يُذكر في هذا السياق ما كُتب عن الديمقراطية الزائفة والحرية المشبعة بالدم التي ما أن تكتفي منه جماعة ما أي «الدم» حتى تقبل بأي كان كي يحكمها باسم الحرية، عندها يتمّ تعيين من يدين بالولاء «لنا» أي لـ»إسرائيل» تحت مسمّيات الديمقراطية والانتخابات.

فبعد كلّ ذلك هل يمكن للشارع السوري التسليم بعملية انتخابية تسمح لأيّ كان الوصول إلى سدة القيادة، أو حتى مجرّد التفكير بها ما لم يثبت مشروعيته بالقدرة على التحدي والتصدي وتحقيق النصر؟ وهل نتوقف عن مقارنة واقع العملية الانتخابية في بلد يقع بشكل طبيعي على خط النار كسورية مع واقعها في دول الغرب والذي لا يتلاقى في أيّ مفصل من مفاصل الحياة اليومية فيها بأبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وحتى التربوية والثقافية، مع المجتمع السوري؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى