أميركا والشرق الأوسط… حتى لا يأخذنا الوهم إعادة تموضع وليس انسحاباً!
د. عدنان منصور*
اعتبر العديد من المراقبين والمحللين والمتتبّعين لشؤون المنطقة، أنّ قرار الولايات المتحدة الرامي الى خفض عدد من قواتها العسكرية، والأنظمة الصاروخية المتطوّرة العاملة في عدد من الدول في الشرق الأوسط، على أنه انسحاب أميركا من المنطقة، وانكفاء عنها.
صحيح، أنّ وزارة الدفاع الأميركية سحبت في الشهر الماضي عدداً من منظومات مضادة للصواريخ من طراز باتريوت، كانت تحتفظ بها في العراق والكويت والأردن والسعودية، وصحيح أيضاً انه تمّ سحب منظومة دفاع أخرى مضادة للصواريخ، في المناطق ذات الارتفاعات العالية، وتخفيض عدد أسراب المقاتلات المتطورة المخصصة للمنطقة. إلا أنّ هذا لا يعني مطلقاً تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة كما يتصوّر ويروّج البعض، كي تتفرّغ واشنطن في ما بعد الى التنين الصيني الذي أضحى يشكل لها منافساً قوياً، وتحدياً وتهديداً مباشراً لمصالحها الاستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا، لا سيما في منطقة جنوب بحر الصين.
مما لا شك فيه، أنّ الشرق الأوسط يبقى واحداً من أبرز المناطق الاستراتيجية الهامة في العالم، الذي استحوذ دائماً، على أهمية بالغة قصوى للدول الكبرى، المؤثرة على مجريات الأحداث العالمية خلال القرنين الماضيين (بريطانيا، روسيا، فرنسا، وفي ما بعد الولايات المتحدة). أهمية تجلت بوضوح بعد اكتشاف النفط على ضفتي الخليج اعتباراً من بداية القرن العشرين، في إيران والعراق والسعودية والكويت.
أصبحت منطقة الشرق الأوسط بعد توسّع الاكتشافات النفطية في دول عديدة فيها، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وراء رسم سياسات الدول الكبرى حيالها، وبالذات الولايات المتحدة وحلفائها، والتي لا تزال منطقة الشرق الأوسط تشكل لها أولوية حيوية في رسم سياساتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وإحدى المحطات الاستراتيجية الرئيسة في العالم.
ليس من السهولة على واشنطن الانسحاب او الانكفاء عن الشرق الأوسط، الذي يبقى بالنسبة لها والدول المؤثرة، واحداً من أهمّ المعادلات الاستراتيجية، ما يدفع بها الى الاحتفاظ بمراكز نفوذ قوية فيه، والعمل على إيجاد مراكز أخرى والتمركز فيها، وإنْ أدّى الأمر بها الى صراعات ومواجهات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة على ساحاته.
واشنطن ليست على استعداد لأن تنسحب من المنطقة، وتترك خصومها ليحلوا مكانها، ويمسكوا بها. وهي ليست على استعداد مطلقاً، كما يتصوّر ويحلل البعض، ترك الساحة الى «عدوتها» روسيا، لتتفرّغ لـ «العدو الصاعد» الصين، الذي ترى فيه المهدّد لمكانتها ومصالحها الاستراتيجية، ومجالها الحيوي وأمنها القومي.
عندما نشرت واشنطن عدداً من المنظومات المضادة للصواريخ في عدد من دول الشرق الأوسط، إنما فعلت ذلك، في ظلّ تصعيد وتوتر أمني وعسكري شهدته هذه الدول. كما أنّ سحب عدد من البطاريات الذي جاء نتيجة خفض التوتر والمواجهات، لا يعني مطلقاً تراجع القوة العسكرية الأميركية الضاربة في المنطقة. إذ أنّ الولايات المتحدة ترى نفسها محصنة وموجودة بكلّ قوة في غربي آسيا، من خلال الأنظمة الموالية لها، ومن خلال القواعد العسكرية المنتشرة في الدول الممتدة على طول الساحل الغربي للخليج، إضافة الى الوجود العسكري في أفغانستان وتركيا وقبرص، والقواعد العسكرية المحتلة في العراق وسورية، عدا الأساطيل والقطع البحرية الحربية التي تجوب على الدوام مياه الخليج والبحر الأبيض المتوسط.
لا بدّ من وضع الأمور في نصابها، ونحن نواجه قوى الهيمنة والتسلط على المنطقة. فإذا كانت واشنطن قد خفضت عدداً من أفراد قواتها، ومن منظوماتها الدفاعية العاملة في المنطقة، فإنّ من يملأ الفراغ بعد ذلك، هو العدو «الإسرائيلي» الحليف الرئيس للولايات المتحدة، ولبعض الدول المطبّعة معه، حيث سيكونون معاً في خندق واحد، وهم يواجهون القوى والأنظمة الوطنية التي تناضل من أجل إنهاء الاحتلال في أفغانستان، والعراق، وسورية، وفلسطين.
واشنطن تبقي على سياساتها ووجودها في الشرق الأوسط، ولن تخليه. إذ هي في مواجهة مستمرة مع خصومها وأعدائها. لها حلفاؤها وأصدقاؤها، ولها قاعدتها الضخمة «إسرائيل»، ولها قواعدها العسكرية المنتشرة في غالبية دوله. لذلك على الدول والقوى الوطنية في المنطقة، أن تكون على استعداد في أي وقت للتصدي لما تبيّته واشنطن وتخطط له بحق سيادة وأمن واستقلال دول المنطقة وحرية شعوبها. كما ينبغي لنا عدم الاستخفاف بالحضور العسكري والأمني الأميركي المتنامي والنوعي فيها، ونحن نقيم إيجاباً ما فعلته أميركا بسحب عدد من المنظومات الدفاعية، لنرى فيها على أنها استعداد أميركي للانسحاب من المنطقة يأتي نتيجة الهزائم الأميركية!
الأميركي يعيد تموضعه، ويعزز من نفوذه، ويجمع حلفاءه في إطار عمل مشترك واستراتيجية مشتركة بغية مواجهة إيران وحلفائها، من خلال استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية، والمالية والتجارية والإعلامية.
انّ أنياب واشنطن في الشرق الأوسط تظلّ بارزة فيه، وتمسك به من كلّ أطرافه. فهي وإن تراجعت أو تعثرت في مكان ما، فهذا لن يثتيها عن إعادة الانقضاض من جديد، حتى ولو خفضت ما خفضت من عديدها ومنظوماتها العسكرية. على هذا الأساس يجب أن تتعاطى القوى الوطنية وهي تواجه سياسات الهيمنة والنفوذ، والقواعد
العسكرية المحتلة، والخطط، والإجراءات، والقرارات الأميركية، وتعمل على إفشالها، وعدم التعويل على تخفيض عسكري هزيل أميركي يأتي من هنا أو هناك، نعتبره في ما بعد بتحليل وتقييم غير واقعي، تراجعاً أو هزيمة أو انسحاباً من الشرق الأوسط، في وقت تتصاعد فيه حدة المنافسة والخلافات الأميركية الشديدة مع الدولتين العظميين، الولايات المتحدة وروسيا! لذلك يبقى الشرق الأوسط في مقدمة الركائز الاستراتيجية في العالم للولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس تتعاطى معه، وهي تواجه أخصامها وأعداءها فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ