الفاتيكان سياسة أم دين؟
} د.وفيق إبراهيم
الدور الرسميّ للفاتيكان في لبنان قد لا يرقى لأكثر من قرن ونيّف، لكن حركته اللبنانية الفعلية تزيد عن عدة قرون لعب فيها رهبان منه دور تنظيم رحلات لرهبان لبنانيين الى الفاتيكان الى جانب إيفاد رهبان من الفاتيكان الى أكبر منطقة عربية فيها مسيحيون وهي جبل لبنان ومتفرّعاته.
هذه الحركة التاريخيّة فيها دين وسياسة. هنا تعمد الفاتيكان الربط بين الجانب الديني من الموارنة والكاثوليك مع مبادئه حاذفاً منها الكثير من محلياتها، كما جذبهم نحو السياسات الغربية الفرنسية في حينه وصولاً إلى الأمركة.
كان المطلوب “حماية” غربية “لدولة المسيحيين” في المشرق العربيّ فأمنها الفاتيكان بسهولة من أوروبا وحالياً من أميركا.
لكن تطوّر الثروات النفطية خفف من الاهتمام الغربي بلبنان مقابل نقله الى جزيرة العرب والدول ذات الأهميات الاستراتيجية كمصر وسورية.
لذلك سجل الاهتمام الغربي بالمسيحيين اللبنانيين تراجعاً دراماتيكياً تركهم يديرون دولة لبنانية بشكل بدائي، فاتحاً لهم تسهيلات للهجرة الى أميركا وأوروبا وكندا وأوستراليا والخليج، ومع الاتجاه الى محدودية المواليد الجدد لتقليد الغربيين من ذوي القرب الاجتماعي، تراجع عدد المسيحيين في لبنان الى درجة لا تحتمل سيطرتهم على الدولة في لبنان.
فشاركهم فيها المسلمون وهم الذين أصبحوا أغلبية في عديد السكان، فكان هناك تطور سنيّ ناصري وسوري تلاه تطور شيعي إيراني.
لجهة فرنسا وأميركا، لم تتمكّنا من تهدئة الهبوط المسيحيّ ولا الحدّ من الصعود الإسلامي، فتركا البلاد على غاربها في ظل فوضى سياسية واقتصادية عميقة أدّت إلى إفلاس لبنان وسرقته وتدمير اقتصاده وسط مراقبات من دول الغرب والفاتيكان.
بالمقابل تمكّنت الكنيسة المارونية في هذه المرحلة من أداء دورين سياسي وهو إمساكها بالموافقة على اي رئيس جمهورية جديد مهما علا شأنه، أما اقتصادياً فإن أكبر قوة إقطاعية في البلاد هي الكنيسة المارونية المالكة معظم أراضي لبنان وثرواته، حتى انها أصبحت أغنى من المصارف وبيوت المال بصمت يدفع الى التعجّب ويجعل من الأوقاف الإسلامية حركات بائسة فقيرة ولولا الأملاك السنية مرتفعة الأثمان لوجودها داخل مدن كبرى، لكانت أوضاعها اكثر سواداً.
هذه الميزة الاقتصادية أعطت الكنيسة المارونية قوة سياسية لاختيار الكثير من الرؤساء والنواب والوزراء الموارنة.
الملاحظ اذاً أن الكنيسة استقت دورها السياسي من قوتها الاقتصادية والتاريخية وارتباطها بالفاتيكان ودول أوروبا عموماً.
بالمقابل الأوقاف الشيعية تؤدي دوراً صامتاً ولا تمتلك قوة إلا حين تحتاج السياسة المدنيّة الشيعية الى دفع تأييدي منها، لذلك نراها صامتة في معظم الأحيان لعدم حاجة حركة أمل وحزب الله اليها.
كذلك بالنسبة لدار الإفتاء السني فلا يتحرك سياسياً إلا عند الطلب، فعندما تصاب السياسة السنية بانسداد او تتعرّض لضغوط على طريقة ما يحدث للحريري مثلاً، نراها تجتمع للدعم الديني ثم تنكفئ الى المحراب كحالها دائماً بانتظار طلب آخر للدعم السياسي.
وأخيراً سقط لبنان آخر مكان للمسيحيين في الشرق يمارسون فيه حرياتهم السياسية، متشاركين مع السياسيين المسلمين في تدمير السياسة والاقتصاد والدور.
وبما ان الإنقاذ يحتاج الى قوى دولية كان لا بد في خاتمة المطاف من استحضار الفاتيكان للتأثير على الجمود الفرنسي – الأميركي في موضوع دعم لبنان وإخراجه من محنته.
إن الانحدار اللبناني الى هذا الدرك المخيف يثير ذعر الفاتيكان من خسارة أهم موقع يشارك فيه مسيحيون مشرقيون سياسة محلية، فعديد الإقباط في مصر والمسيحيين في سورية والعراق أصبح اكثر عدداً من مسيحيي لبنان، لكن ادوارهم السياسية ضعيفة جداً قياساً بالدور القياديّ لمسيحيي لبنان.
وهذا يفرض على الفاتيكان السعي القوي جداً للإنقاذ وهذا يفترض فوراً دعماً مادياً اوروبياً واميركياً بطلب فاتيكاني قد يتدحرج نحو الخليج نظراً للعلاقات الخاصة بين باباوات الفاتيكان وملوك وأمراء جزيرة العرب بوساطات أميركية بالطبع.
فهل ينجح المسعى الفاتيكاني؟
لن يفشل على الأقل لأن للفاتيكان روابط متينة مع اوروبا وعلاقات حميمة مع الاميركيين تصل الى ميادين العرب، لكن المشكلة هنا هي في السياسة وهي هل يتمكن الفاتيكان بالتعاون مع الكنيسة المارونية من اختيار الأكثر كفاءة من بين السياسيين اللبنانيين المسيحيين لإدارة البلاد الى جانب سياسيين مسلمين يحظى معظمهم بتأييد من الخارج السعودي والايرانيّ؟
ألم يقترف الفاتيكان خطأ عندما ترك حبيقة وجعجع يقودان لبنان نحو “اسرائيل”، مكتفياً بالصمت ويقول البعض إنه كان معولاً على سيطرة مسيحية على التحرك الفلسطيني الذي كان يحاول السيطرة على لبنان.
يعتقد بعض المحللين أن الفاتيكان ذاهب باتجاه تأمين مساعدات للبنان على قاعدة اختيار سياسيين مسيحيين أكثر كفاءة من الحاليين، بوسعهم التعاون مع معتدلين من الطوائف الإسلامية لإعادة إنقاذ لبنان وتأمين موارد دائمة له من حركتي الاستيراد والتصدير، بذلك يتأكد أن تخلي الفاتيكان عن لبنان يبدو وكأنه يأس كامل من أي دور سياسي للمسيحيين في الشرق. وهذا ما لا يرتضيه الفاتيكان الباحث بعد زيارته الأخيرة للعراق عن توسيع السياسة المسيحيّة المشرقيّة في قلب بلاد العرب.