«مجلس الوصاية» لن ينقذ لبنان وليس هو الحلّ
العميد د. أمين محمد حطيط _
من أسف نقول إنّ معظم الطبقة السياسيّة اللبنانيّة تتصرّف بذهنيّة القاصر الذي يبحث عن وصيّ خارجيّ يدير له شؤونه ويؤمّن له ظروف النهب وجمع الأموال مقابل تسليمه القرار الوطنيّ والقبول بربط لبنان بالقرار الأجنبيّ عبر سفير في بيروت أو موظف في سفارة. والأدهى من ذلك أنّ هؤلاء أنفسهم الذين يقرّون ويشهدون على أنفسهم بالعجز والقصور عن ممارسة السيادة يدّعون أنهم دعاة سيادة واستقلال ويتشدّقون بأنهم أصحاب ثورات وانتفاضات وطنيّة ترفض الانتداب والاستعمار والاحتلال، والأدهى من ذلك أنهم يرمون القوى التي قدّمت دماء زكيّة طاهرة من أجل تحرير الأرض وطرد المحتلّ “الإسرائيلي” منها، يزعمون بأنّ هذه القوة هي التي تستدرج الوصاية والاحتلال (هكذا يستعملون عبارة احتلال ويردّدونها بكلّ فجور ووقاحة وانحطاط أخلاقيّ وتزوير للوقائع). فلبنان وللأسف بلد الممارسة السياسية على نهج النفاق وتقليب الحقائق والتزوير.
وآخر إبداعات التبعية والارتهان للخارج – وسلسلة ذلك طويلة ونقول آخر وليس الأخير – آخر هذه الإبداعات تشكّل “مجلس وصاية علني” من السفيرتين الأميركية والفرنسية في بيروت في صيغة صريحة يطمحان أن يكون فيها طرف ثالث هو السعوديّ، مجلس وصاية يطمح أطرافه إلى وضع لبنان تحت انتداب واقعيّ يعوّض لهذه الأطراف خسائرها لا بل هزيمتها في الإقليم.
وهنا نذكر بأنّ لبنان ليس جزيرة معزولة أو منفصلة عن الإقليم، وليس لبنان كما يزعم دعاة الحياد ومبتدعو الصيغة العجيبة التي لا محلّ لها في العالم والموسومة بعبارة “الحياد الناشط” والانتقائي، فلبنان جزء من هذه المنطقة وجزء من هذه الأمة وجزء من هذا الأقاليم، يصيبه ما يصيب الإقليم خيراً أو شراً وليس أدلّ على ذلك من أنّ لبنان تلقى مفاعيل احتلال فلسطين كما الفلسطينيون أنفسهم ويخضع الآن لمفاعيل الحرب الكونية التي استهدفت سورية كما سورية نفسها، وبالتالي نقول إنّ سبب مأساة لبنان الحاليّة هو القرار الخارجي للمهزومين في الحرب الكونية التي استهدفت محور المقاومة انطلاقاً من الميدان السوريّ وأنّ هؤلاء المهزومين يعوّلون على الساحة اللبنانيّة لتحديد خسائرهم ومنع المنتصر من استثمار انتصاره وفرض حالة فوضى تجمّد أو تضطر المنتصر للتنازل عن جزء من منجزاته ليُرضي المهزوم ويحمله على وقف عرقلته العودة إلى الحياة الطبيعيّة.
لقد كان صادقاً وواضحاً رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب عندما أسمع السفراء الأجانب، ومن بينهم أعضاء مجلس الوصاية الواقعي (فرنسا وأميركا)، كان واضحاً بتحميل الخارج الجزء الأهمّ من مسؤولية الوضع المأسوي الذي يتخبّط فيه لبنان في قعر هاوية الفراغ السياسي والانهيار المالي والنقدي، وهذه الجرأة استفزّت إحدى أعضاء مجلس الوصاية التي انبرت وخارج الأصول الدبلوماسية للردّ ورفض مقولة الرئيس دياب، وحصر المسؤوليّة عن الكارثة اللبنانية القائمة بفساد الطبقة السياسية التي تحكم لبنان.
وهنا نحن نؤكد على صحة ما قالته السفيرة الفرنسية في الجانب المتعلق بفساد معظم السياسيين في لبنان، ولكن لا نوافق مطلقاً على حجب السفيرة لمسؤولية الخارج خاصة دول مجلس الوصاية الواقعي المعلن عن هذه الكارثة، التي هي صناعة خارجيّة استعملت مواد وأشخاصاً وظروفاً لبنانية داخلية، مأساة لبنان الراهنة هي ثمرة الحصار الأميركي والإرهاب الاقتصادي الغربي الذي يمارَس ضدّ لبنان وسورية، ويتخذ من لبنانيين عملاء وتابعين ولصوصاً، يُتخذ منهم أدوات للتنفيذ، فمن ينفذ الجرائم الغربية بحق لبنان هم لبنانيون تابعون للغرب ويستمدّون الحماية من الغرب! وهل ينسى اللبنانيون والعالم أنّ الغرب عامة وأميركا خاصة كان ولا يزال يرسم الخطوط الحمر لحماية هذا السياسي أو هذا الحاكم أو ذاك الموظف رغم فساده ونهبه للمال العام؟
في جلسة السراي الأخيرة تصرّفت السفيرة الفرنسيّة بصفتها ممثلاً لمجلس الوصاية على لبنان، وأطاحت أو لنقل لم تقف عند حدود المواقع والصلاحيات، ولم تتذكّر بأنها سفيرة دولة أجنبيّة تمثل مصالح بلادها لدى الدولة اللبنانيّة وليست مفوّضاً سامياً متجدّداً أو مستمراً منذ عهد الانتداب الذي انتهى نظرياً قبل نيّف وسبعين عاماً من الانتداب الذي كان يتولى إدارة شؤون الدولة مستعملاً وزراء ونواباً يعزلهم أو يعتقلهم متى شاء. والغريب الغريب أيضاً أنّ تصرّفها هذا لم يثر أحداً من منافقي ودعاة السيادة والاستقلال ومدّعي محاربة الاحتلال الأجنبي والسيطرة الأجنبية.
وليؤكد على قيام مجلس الوصاية بشكل واضح اتجهت السفيرة الفرنسية تلك مع العضو الآخر في “مجلس الوصاية الأجنبية على لبنان”، اتجهت إلى المملكة السعودية في مسعى لترتيب مسائل لبنانية من قبيل تشكيل الحكومة وتنظيم الشؤون السياسية والاقتصادية للبنان من دون أن يكون للبنان دور في الموضوع، مهمة غير مسبوقة في عالم الدبلوماسيّة وتذكّر فقط بما فرضه الغرب على لبنان في ظلّ الحكم الذاتي الذي منح له إبان السيطرة العثمانيّة، حيث فرض حكم ما أسمي “حكم القناصل الأربعة”، حيث تشكل بشكل واقعيّ ما أُسمي يومها مجلس القناصل (فرنسا بريطانيا النمسا روسيا) للوصاية على لبنان.
لكن يبدو أنه غاب عن السفيرة وشركائها في “مجلس الوصاية الواقعي” بنسخته الجديدة أنّ لبنان القرن الحادي والعشرين ليس لبنان القرون الوسطى ولا لبنان القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، كما غاب عنهم أنّ نكتة أو خدعة الحياد التي يروّج لها البعض هي حرف ميّت لا روح فيه، وأنّ لبنان هو جزء لا يتجزأ من منطقة تعيش مرحلة ما بعد هزيمة الغرب في الحرب الكونيّة التي استهدفت محور المقاومة في الميدان السوريّ، وهي تختلف كلياً عن وضعها في عهد “مجلس القناصل” أو وضعها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. المشهد مختلف والميدان مختلف والتشكلات الاستراتيجيّة مختلفة.
ففي لبنان مقاومة فاعلة فرضت معادلة ردع عطلت استعمال القوة العدوانيّة ضدها، وفي لبنان مقاومة ترتبط بنيوياً وعملانياً واستراتيجياً بمحور إقليمي أكد اقتداره على مواجهة العدوان الأجنبي الغربي وحقق الانتصارات التي أذهلت أهل العدوان، وفرض نفسه على نظام عالميّ قيد التشكل، وأخيراً أنّ لدى لبنان خيارات متعددة وفاعلة سيلجأ اليها في لحظة حاسمة تخرجه من دائرة تأثيرات الحصار الغربي ومن فساد الطبقة السياسية اللبنانيّة التي يرعاها الغرب والتي يقيمها حارسة لمصالحه عندنا، واذا تأخرت المقاومة حتى الآن في العمل ببعض هذه الخيارات، فإنه تأخير مؤقت من أجل منح الفرص للغير ليراجع حساباته قبل الكيّ ويكون التأخير استمهالاً ولن يكون تركاً وإهمالاً مؤبداً.
وعليه نقول إنّ هناك شبه استحالة لنجاح مجلس الوصاية في ما انتدب نفسه إليه في لبنان من حيث السيطرة او وضع اليد ومحاصرة المقاومة وتعطيلها، وهو لن ينجح في فرض حكم يُقصي المقاومة (بدعة الاختصاصيين سقطت) أو حصار يركع المقاومة وجمهورها رغم الشوائب التي تعتري علاقات المقاومة ببعض من يقول إنه حليف أو مؤيد لها ثم يساعد الخارج عليها، وإن وقف عمليات التنقيب عن الغاز في البحر أو المماطلة في ترسيم الحدود البحرية من أجل فرض التنازل على لبنان، أو التهويل بمراجعة القرار 1701 لخنق المقاومة أو… أو… الكثير من السلوكيات التي تمارس لوضع اليد على لبنان ومقاومته، كلّ ذلك لن يجدي.
ففي لبنان مقاومة، ومقاومة لبنان تنتمي إلى محور، ومحور المقاومة في حالة انتصار وتراكم الإنجازات وكلّ الظنون ومحاولات التطويق لن تجدي… لكنها تؤلم الشعب اللبناني الذي عليه أن يعرف أنّ سبب مأساته هو قرار خارجي يستثمر بفساد داخلي ولن يكون الحلّ بمجلس وصاية أجنبي، بل يكون الحلّ بالتحرّر من تلك الوصاية والتطهّر من ذاك الفساد والمفسدين، وهما مسؤولية مشتركة بين الشعب والمقاومة، وأعتقد أنهما لن يستنكفان عن القيام بها.