أوهام العقل النقديّ في المجتمع العربيّ
سومر منير صالح
يعاني المجتمع العربيّ إشكاليةً «متجدّدة» في الثقافة العربية هي إشكالية التأخر التاريخي للعرب. وهي بالتعريف البسيط على ما رأى عبدالله عروي «التسليم بوجود مرحلةٍ متقدمةٍ لم يبلغها المجتمع المتأخر وانتظام التاريخ على مقتضى واحد ومسار واحد، مع الإقرار بإمكانية الطفرة». تسود في الثقافة العربية المعاصرة إشكالية أكبر وأعمق هي إشكالية «إعادة إنتاج التأخر التاريخيّ» مجدداً بأدواتٍ جديدةٍ وبيئة خطابٍ جديدة. فمنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر يدور الفكر العربي حول إشكالية «التقدم والترقي والاتحاد» بحسب تعبير محمد عابد الجابري، وما هي السبل الكفيلة للوصول إليه: النهضة أم الثورة أم الإصلاح الدينيّ، أم الإصلاح الاجتماعيّ؟ وما هو دور الدولة في عملية الإصلاح، إذ ساد في الفكر والثقافة العربية المعاصرة خطابان فكريّان، خطاب النهضة الذي بدأ مع جمال الدين الأفغاني، ومع محمد عبده الذي بحث عن حلول لمشاكل المجتمع العربيّ في الفكر الإسلاميّ والتراثيّ فكان خطاباً في النهضة الإسلامية وخطاباً تراثياً ماضوياً مؤسساً للسلفية الفكرية المعاصرة. وخطاب الحداثة، ونقيضه خطاب الحاكمية، مع شبلي شميل وسلامة موسى ومحمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز وأجيالٍ متعاقبة من رواد الحداثة العربية، والثاني مع حسن البنا وأفكار سيد قطب. عكست هذه الأجيال المتعاقبة بين رواد النهضة والحداثة ودعاة السلفية الفكرية الخلافات الفكرية على شكل الدولة والمجتمع في الثقافة العربية المعاصرة، إلاّ أنّ السبب الحقيقي لهذه الخلافات هو وجود نمطين من التفكير في كلّ مرحلةٍ تاريخيةٍ وخطابٍ فكريّ،هما العقل النقلي والعقل النقدي، فالأوّل يتميّز بثلاث صفات، إمرار الأفكار من دون مناقشة، وتكرارها من دون تمحيص، وتبريرها، فيتحوّل العقل إلى وعاءٍ يضمّ كماً فوضوياً من الأفكار بلا نسقٍ معرفيّ ابستمولوجي، وتتشكل الدوغمائية بمعنى الانغلاق الفكريّ، وتتشكل العقلية أحادية الرؤية والمبنيّة على الرؤية الراديكالية، بينما يبحث العقل النقديّ عن الحقيقة في الواقع الملموس وليس المجرد الغيبيّ، بناءً على الإدراك الحسيّ التجريبيّ للظواهر، وهو يتسم بصفات أهمها النقد، بمعنى عدم تقبل الآراء والأفكار إلاّ بعد مراجعتها نقدياً. والنسبية، أي لا قيم مطلقة فكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ما يعزز الاتجاه النقدي والانفتاح، على عكس الدوغمائية، إضافةً إلى الوعي، أي الإحاطة بالظروف والإشكاليات المرتبطة بالبيئتين الاجتماعية والثقافية حول الظاهرتين الاجتماعية والسياسية.
يسود تيار العقل النقليّ، ويا للأسف، في المجتمع العربيّ، رغم توافر لحظاتٍ فكريةٍ في تاريخ الثقافة العربية كان فيها العقل النقديّ سمةً في المجتمع مع تيار المعتزلة وفلسفة ابن رشد. لهذا النمط السائد في التفكير النقليّ أسبابه التاريخية والمعاصرة، أبرزها:نظام التعليم السائد منذ عدة عقود، مرتكزاً على تكوين العقلية النقلية التي تعتمد على الحفظ والتلاوة الشفاهية والكتابية، وهو أمرٌ لا يقتصر على نظام التعليم الدينّي إنّما يسود أيضاً في إطار التعليم العام والجامعيّ، ثم يبدو استثناءً ظهور بعض التعليم الذي يتأسس على النزعة العقلية والتفكيكية والتحليلية ذات الطابع النقدي. وعزّزت الذهنية النقلية تلك التعميمات المطلقة والسطحية المبسّطة في الثقافة «الشعبية العربية» وتحليل النصوص والأمثال الشعبية خارج سياقها التاريخيّ الاجتماعيّ، تضاف إليها طبيعة الأنظمة السّياسية العربية التي كرست الدين كوظيفة للحفاظ على عروشها، والتي لم تستطع الخروج من الخلافة كأسلوب حكم وإن تجددت الصورة بأنظمةٍ ظاهرها تعدديّ. أضحت النصوص الدينية «مقدسةً» بغض النظر عن مصادرها، وكرّست هذا الأمر بالمجتمع منعاً من الثورات والانتفاضات، فضلاً عن الهزائم العربية المتلاحقة وانتكاسات التحديث والمتغيرات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين، التي أوجدت في الثقافة العربية تياراً مهادناً للأنظمة العربية، والنظام الدولي الجديد، مع تكريس ثقافة التبعية والهيمنة للغرب الرأسماليّ، ما عزّز ثقافة الاستهلاك. ناهيك عن هيمنة تيار القيم الجبرية والقدرية على حياة الإنسان العربيّ وطبيعة بنية العائلة العربية القمعية والهرمية التي تسمح بإمرار الأفكار هرمياً من الأعلى إلى الأدنى من غير السماح بمناقشتها ونقدها، ونجد انعكاسها في حالة النظام السياسيّ القُطري العربي الراهن. هذا النمط من العقلية النقلية انعكس على المجتمع العربيّ فازدات التيارات المحافظة، وازداد التقليد، واشتد التعصب، ما ساهم في تناميّ تيار الأصولية الدينية في المجتمع، خاصة مع تراجع مشاريع العلمانية والحداثة وانكفاء دور المثقفين وانحسار مشروع القومية العربية وتعميق حالة الاغتراب العربي والمجتمعي، أي «فشل المجتمع العربي في التحكم في موارده وفي مصيره». وتعززت حالة التبعية الثقافية للغرب، وبدأت بالتبعية التكنولوجية الكاملة، وراهناً الإعلامية، ولاحقاً السياسية في تقرير مصيرنا.
قلنا في البداية أنّ الإشكالية الكبرى هي إعادة إنتاج هذا التأخر التاريخي للعرب بأدواتٍ جديدةٍ أبرزها وسائل الإعلام الحديثة التي تنقل الخبر والحدث وتحلله وتعطي نتائجه وآثاره، فيمسي المشاهد متبنياً رأي الوسيلة الإعلامية، بلا تمحيص للأفكار، إذ تستخدم وسائل تقنية وإعلامية بصرية لتعزيز الانطباعات الفكرية لدى المتلقي، وتنامي تيار المؤسسات الدينية والخطاب الدينيّ في المجتمع، وتناميّ ظاهرة مواقع التواصل الالكترونيّ والترويج لثقافة «نقل الأفكار» وتبنيها من غير التحقق من مصدرها، وطبيعة نظام التعليم الجامعيّ القائم على التلقين وليس على البحث العلميّ النقديّ، واستمرار حالة الثقافة الشعبية والانغلاق على الذات والهويات الفرعية لمصلحة الأساطير المروية والملاحم البطولية الفرعية، إضافةً إلى فشل الأنظمة العربية في بلوغ مرحلة الإنتاج الصناعيّ، وتعزيز عمليات البحث العلمي. بل تكتفي بالاستثمارات التي «نقل» شكل الإنتاج إليها دونما صنع لمستلزمات الإنتاج، وتستمرّ هذه الأنظمة في الخطاب السياسي الثقافي الهزيل وتعزيز حالة الارتهان للغرب ومشاريعه الاستعمارية في المنطقة ومحاصرة المثقف العربي الحرّ والناقد وعدم توفير منافذ ثقافية يحصل من خلالها التجديد الثقافيّ في المجتمع… ذلك كله لحساب إظهار مثقفيّ البترودولار والوظيفة العامة وتمكينهم، ليبقى التساؤل الأساسي لِمَ ليس العقل النقديّ سمة المجتمع العربيّ؟! ويكمن الجواب، فضلاً عمّا تقدم، في أنّ للعقل النقديّ بيئة حاضنة محفزة لوجوده ودوره، تتمثل في الحريات الفكرية والدينية في الدولة والمجتمع العربي، والطابع النقديّ العام في المؤسسات البحثية العربية، والطبيعة الديمقراطية للأنظمة السياسية العربية، مع إلغاء الطابع الأمنيّ وعقلية المؤامرة كإحدى سمات المجتمع العربيّ المعاصر. هذه شروطٌ غير متوافرة إلى الآن في مجتمعاتنا العربية، فما زال الدين أحد التابوات المقدسة ولا يجوز نقده في المجتمع العربيّ، بينما كان نقد خطاب الدين سمةً أساسيةً في عصر الأنوار الأوروبيّ، متمثلاً في الفلسفة الكانطية، وكان مدخلاً للانتقال إلى الحداثة. أما ونقد الأخلاق السائدة فما زال يصطدم بقيم المجتمع وخوفه من البديل المقترح، بينما الأصل وبحسب الفلسفة الكانطية أنّ الأخلاق من العقل والأمر الأخلاقي هو أمرٌ عقليّ وتنفيذه نابع من الإرادة الحرة وليس من القلب والضمير.
إنّ إشكالية العقل النقديّ تاريخيةٌ في الثقافة العربية وبدأت مع اندثار فكر المعتزلة في التاريخ العربيّ، وحرق كتب ابن رشد في القرن الثالث عشر، وتعمقت هذه الإشكالية مع فشل التجربة المصرية التنويرية في القرن التاسع عشر، ليبقى خطاب العقل محصوراً في ذهنية قلةٍ مثقفةٍ محاصرةٍ بأنظمةٍ رجعيةٍ، ومجتمعٍ محكومٍ بهذه الأنظمة مع تاريخٍ عميقٍ من التجهيل وعدم القدرة على المبادرة التاريخية للنهوض.
ماجستير في الدراسات السياسيّة