«الصبر الاستراتيجي» أم السلبية المدمّرة
عامر نعيم الياس
خيط رفيع يفصل بين الصبر والسلبية، لعلّ هذه هي حال استراتيجية الأمن القومي الأميركية الأخيرة التي أعلن عنها الشهر المنصرم، والتي ستظلّ سائدة حتى نهاية ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد أقلّ من عامين من الآن.
الاستراتيجية الكبرى لحراك القطب الأكثر قوةً في العالم وضعت حداً لما قبلها من حيث شكل الحروب التي ستخوضها الولايات المتحدة، فالرئيس الأميركي وفي الوثيقة التي صدرت عن البيت الأبيض وإنْ ركّز على أولوية «القيادة الأميركية» للعالم، والتي ذكرت أكثر من «100 مرة» في الـ26 صفحة التي أفرج عنها للإعلام، إلا أنه وضع حدّاً «للحروب الوقائية» ولم يكتفِ بذلك بل حذّر من مخاطر ردود الفعل السريعة والأحادية المبنية على تقديرات خاطئة «الولايات المتحدة تدافع عن مصالحها وتحترم التزاماتها مع شركائها وحلفائها، ولكن علينا المضيّ في خيارات صعبة في العديد من الأولويات التي تواجهنا»، خيارات يبدو أنّ إدارتها ليست باختيار الأفضل دائماً بل باختيار نمط جديد من الحروب والتدخلات «إن التحديات التي نواجهها اليوم تتطلب الصبر والمثابرة الاستراتيجية»، عند هذا التعبير الفضفاض تفتح الاستراتيجية الأميركية في عهد أوباما باب الاحتمالات على مصراعيه راميةً وراءها دعوات تيارٍ داخل النخبة الأميركية يشكك في النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ويدعو إلى إعادة النظر فيه على أسس جديدة، كما قدّم هنري كيسنجر في كتابه الأخير «النظام العالمي»، وروبرت كابلان في كتابه «انتصار الجغرافيا»، خاصةً في ضوء الأزمات التي تواجهها الولايات المتحدة من انهيار الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، والأزمة الأوكرانية، والملف النووي الإيراني. حيث من الواضح أنّ البيت الابيض أراد اعتماد خيار تيار آخر في قلب النخب الأميركية يدعو إلى التركيز على الوضع الاقتصادي الأميركي الداخلي أولاً، وهو ما افتتح به أوباما استراتيجيته الجديدة للأمن القومي، ومراقبة التطورات العابرة للحدود والأزمات الخارجية دون الاندفاع قدماً في المواجهة، أو محاولة تغيير النظام العالمي القائم حالياً، وعلى الرغم من عمق الأزمة بين الولايات المتحدة وروسيا في ما يخصّ الملف الأوكراني وحتى السوري، نلحظ في استراتيجية أوباما أنّ الخطر الروسي لم يأتِ ضمن قائمة الأخطار الثماني التي تهدّد الأمن الأميركي «الهجمات الكارثية ضدّ الولايات المتحدة، الاعتداءات على المواطنين الأميركيين في الخارج، الأزمة الاقتصادية، انتشار أسلحة الدمار الشامل، الأوبئة، التغيّر المناخي، تعطّل أسواق الطاقة، التداعيات الأمنية للدول الفاشلة».
قد يفسَّر ما سبق على أنه أقرب إلى الانكفاء أكثر منه إلى التدخل المفتوح والتوسّع، لكن من الواضح في ضوء الوقائع على أرض المعركة في سورية والعراق وحتى في أوكرانيا، أنّ استراتيجية «الصبر الاستراتيجي» التي أشار إليها أوباما والتي أثارت بدورها العديد من الجدل والنقاش في أوساط المراقبين، ليست إلا شكلاً أكثر هدوءاً من أشكال التدخل العسكري الأميركي غير المباشر الناعم القائم على ركوب موجة الأزمات الدولية المتعددة مع ما تفرزه من انقسامٍ معدٍّ منذ عقود من قبل دوائر الاستخبارات الغربية، بما يمهّد إلى المواجهة المسلحة والتدمير الشامل لجغرافيا الاقتتال، تلك الجغرافيا التي تلعب أهميتها دوراً إضافياً في إطالة أمد الصبر الاستراتيجي لباراك أوباما ممثلاً بالتدمير الممنهج والاستنزاف المترافق بأهداف فضفاضة لا تمنع من حدوث انعطافة نوعية ومفاجئة في بعض الملفات، إذا نفد صبر الرئيس الأميركي الذي له الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد الاستراتيجيات الكبرى خلال العامين المقبلين.
كاتب ومترجم سوري