أيّ لبنان بعد الانفجار؟
د. عصام نعمان*
الانفجار المالي والاقتصادي والاجتماعي والأمني حَدَث، وهو يتفاقم. متى الانفجار السياسي؟ هذا هو سؤال الساعة في لبنان.
مردُّ السؤال انحدار البلاد والعباد الى حال غير مسبوقة من شحّ الغذاء والدواء والكهرباء والوقود، وتهديد بازغ بإغلاق المستشفيات والجامعات والمؤسسات، وشلل المواصلات، وفرار المجنّدين، واستشراء الاضطراب الأمني، وعجز المنظومة السياسية المتحكّمة، بمواليها ومعارضيها، عن تأليف حكومة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة منذ تفجير مرفأ بيروت في 4 آب/ اغسطس 2020.
الانفجار الوشيك سياسي، أيّ لبنان سيظهر بعده؟
لتقديم إجابة موضوعية ومتكاملة عن هذا السؤال المصيري، عقدتُ مع ثلاثة مراقبين مشاركين مرموقين، بمعنى ناشطين جدّيين في بيئاتهم المتنوّعة دينيّاً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، ندوةً إفتراضية (تقنية Zoom) تناولت مختلف أوجه الأزمة الحادّة التي يعيشها لبنان، وخرجت بالتقديرات الآتية:
ثمة إجماع بين المشاركين الثلاثة على انّ حال لبنان شديدة التأزّم والاضطراب ما يجعل استشراف المستقبل بالغ الصعوبة وعُرضة تالياً لتقلّباتٍ شتى.
اول المشاركين رأى ان المنظومة السياسية المتسلّطة ما زالت مقتنعة بأنّ في مقدورها تفادي الانفجار بتأليف حكومة ائتلافية متوازنة وملتزمة ببرنامج لتأمين الاولويات الاقتصادية والاجتماعية الملّحة في المرحلة الراهنة ولاسيما ضروريات المعيشة الأساسية كالخبز والدواء والوقود والكهرباء والأمن، وان ذلك كافٍ لتفادي الانفجار بوجهيه الأمني والسياسي. ويرى هذا المشارك ان لا ميزان قوى داخلياً يسمح لقوى التغيير، بشتى تلاوينها، بإزاحة المنظومة السياسية المتسلّطة او بإحداث تغيير جوهري في طبيعة النظام الطوائفي السائد. ذلك يشجع المنظومة المتسلّطة على متابعة نهجها الراهن في إدارة الشؤون العامة. لكنها إذا ما تحسّست في المستقبل المنظور عوامل وتطورات تهدّد تحكّمها بالسلطة فلن تتردد في تمديد ولاية مجلس النواب لتفادي المخاطرة بإجراء انتخابات نيابية في ربيع السنة المقبلة قد تفضي الى مفاجآت سياسية وأمنية تزيد الأزمة الراهنة تعقيداً وحدّة. ختاماً، يدعو المشارك الأول قوى المعارضة الحقيقية للنظام الطوائفي السائد الى التنسيق والتضامن لتشكيل قوة ضاغطة على أهل النظام والحكومة المنبثقة منه بغية إيلاء الأولويات الاقتصادية والاجتماعية تركيزاً استثنائياً والحرص تالياً على تقديم إنجازات ملموسة في هذا المجال تعزّز الاستقرار والأمن وتتيح لقوى التغيير بأن تطرح بفعالية مطالبها السياسية الإصلاحية وتستقطب في سبيلها جمهوراً واسعاً عابراً للمناطق والطوائف.
ثاني المشاركين شكّك في قدرة المنظومة السياسية المتسلّطة على توليد حكومة مقبولة تستطيع مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة والحؤول دون انفجار سياسي يدفع جماهير واسعة الى الشارع. مردُّ شكّه قيامُ تكتل متنامٍ من قوى سياسية مسيحية مناهضة للرئيس ميشال عون وحزبه المعقود اللواء لصهره جبران باسيل، ومعادية لحزب الله ومقاومته للكيان الصهيوني وحلفائه. هذه القوى تراهن على ان الولايات المتحدة لن تسمح للتحالف السياسي الحاكم بالبقاء لغاية الإنتخابات في الربيع المقبل. حتى لو أخفقت في إزاحته عن السلطة فإنها لن تتوانى عن بذل كلّ ما في وسعها للحؤول دون فوزه بأكثرية نيابية تمكّنه من العودة الى الحكم. ختاماً، يدعو هذا المشارك قوى التحالف الحاكم الى المسارعة لتقديم إنجازات مجزية، اقتصادية واجتماعية، للطبقات الشعبية المتضررة من الإنهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي من جهة، والمبادرة من جهة اخرى وبلا إبطاء الى تقديم تنازلات سياسية في ما بين أطراف التحالف الحاكم نفسه. فالتكتل العوني مدعوّ الى التراجع والتسليم بضرورة تنفيذ احكام الدستور لا سيما المادة 22 منه التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، والقبول تالياً بالدائرة الوطنية الواحدة. وحزب الله مدعوّ الى التشدّد مع التكتل العوني بحمله على التسليم بتطبيق المادة 22 من الدستور ومضمونها السالف الذكر، واشتراط موافقته الصريحة في هذا المجال لدعم مرشح العونيين لرئاسة الجمهورية في شهر تشرين الأول من العام المقبل. وحزبُ الله مدعوّ أيضاً الى الضغط على حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري لإعلان موافقته، قولاً وفعلاً، على تعجيل التحقيق الجنائي في الأموال المنهوبة والمهرّبة، والتحقيق في تفجير مرفأ بيروت وانفجار عكار وغيرها من كبريات القضايا الجنائية.
ثالثُ المشاركين استبعد التوصل الى مخرج لائق او تسوية تاريخية لأزمة لبنان المزمنة والمتفاقمة في ظلّ نظام المحاصصة الطوائفية السائد وشبكته السياسية الفاسدة، داعياً حزب الله الذي يتعرّض الى حملة شديدة من الولايات المتحدة وحلفائها المحليين غايتها تعطيل سلاح المقاومة، وتفكيك تحالفه مع التكتل العوني، وإبعاده عن المشاركة في اي حكومة قادمة، الى ان يحزم أمره ويطلب الى حلفائه (الذين يمتلكون مجتمعين اكثر من 65 مقعداً في مجلس النواب الحالي من أصل 117) مباشرة الانتقال فوراً وتدريجاً الى نظام سياسي مغاير وذلك بتشكيل حكومة وطنية جامعة برئاسة شخصية مقتدرة وعضوية قياديين أكفاء واختصاصيين من خارج أهل النظام لتتولى، الى جانب برنامج الاولويات الاقتصادية والاجتماعية التي حدّدها المشارك الثاني، تنفيذ إصلاحات جوهرية في هذه المرحلة على النحو الآتي:
(أ) تشكيل هيئة للتدقيق المحاسبي والمالي والجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي وهندساته المالية، والمصارف، وحسابات الدولة، والتحقيق في الاموال المنهوبة والمهرّبة الى الخارج وإحالة المخالفين على محكمة خاصة لمحاكمتهم.
(ب) تصفير الفوائد على الدين العام، وتصفير الضرائب على المواطنين، ورفض شروط صندوق النقد الدولي لفرض ضرائب جديدة وخصخصة مرافق عامة.
(ج) التوجّه شرقاً الى الصين وروسيا وإيران وقبول عرض الاخيرة تسديد ثمن البنزين والمازوت المستوردين بالليرة اللبنانية، مع الحرص على عدم القطع مع دول الغرب الاوروبية والاميركية في ميادين التعاون الاقتصادي والانمائي والتكنولوجي.
(د) تحديد سعر صرف العملات الأجنبية بالنسبة لليرة اللبنانية.
(ه) إقرار قانون السلطة القضائية بما يكفل استقلالية القضاء وتأمين العدالة.
(و) إقرار مشروع قانون ديمقراطي للإنتخابات يراعي احكام الدستور، لا سيما المادة 22 (مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 27 («عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء» ما يستوجب الدائرة الوطنية الواحدة والتمثيل النسبي) والمادة 95 («إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية») وخفض سن الإقتراع الى الثامنة عشرة.
(ز) إحالة مشروع قانون الإنتخابات الديمقراطي المتوافَق عليه في مجلس الوزراء على مجلس النواب بصفة المعجّل سنداً للمادة 58 من الدستور لإقراره. واذا امتنع المجلس أو أخفق في بتّه لأيّ سبب كان بعد مضيّ أربعين يوماً من طرحه عليه، يُصار الى إصدار مرسوم في مجلس الوزراء يقضي بتنفيذه.
(ح) إجراء انتخابات عامة وفق مشروع قانون الإنتخابات الجديد بغية توليد اول مجلس نواب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته، فيشكّل بمجرد انتخابه مؤتمراً تأسيسياً لإعادة بناء لبنان دولةً ووطناً.
ختاماً، أكد المشارك الثالث ان عدم تأليف حكومة وطنية جامعة تنهض بالمهام الوطنية والإصلاحات السياسية والاقتصادية الجوهرية المنوّه بها آنفاً، سيؤدي الى التعجيل بانفجار كبير يتفكك بفعله ما تبقّى من هيكلية الدولة المتهالكة، ويمسك بالسلطة تالياً الحزبُ الأقوى في كلٍّ من مناطق لبنان من شماله الى جنوبه، تظللها جميعاً كونفدرالية هشّة تكون اسماً مستعاراً لواقع التقسيم.
أيّ من الاحتمالات الثلاثة سيكون عليه لبنان بعد الانفجار؟