موسكو تقود هجوماً مضاداً ضدّ واشنطن في الميدان
محمد صادق الحسيني
في حدث لافت يبدو أنه سيأخذ أبعاداً ودلالات مهمة في ظلّ الأحداث الدولية المتسارعة، بدأت اليوم، 10/9/2021، المناورات المشتركة بين روسيا الاتحادية وروسيا البيضاء، والتي تسمّى: مناورات الغرب 2021، وتستمرّ حتى 16/9/2021، وذلك بمشاركة العديد من الدول، مثل الهند وطاجيكستان ومنغوليا وكازاخستان وأرمينيا وصربيا وسري لانكا ومراقبين من الصين وفيتنام وأوزباكستان وغيرها، ويشارك في هذه المناورات، ما يربو على مائتي ألف عسكري إضافة إلى مئات الدبابات والآليات العسكريه المختلفة، بمساندة أسراب من المقاتلات الحربية والمروحيات والسفن العسكرية المختلفة.
وعلى الرغم من أن هذه المناورات تجري سنوياً، بهدف رفع القدرات القتالية لقوات الدول المشاركة فيها، إلا أن لها هدفاً استراتيجياً أعمق من أهداف المناورات الروتينية. إذ إنها، وبحسب ما صرح به نائب وزير الدفاع الروسي، الجنرال أندريه كارتابولوف، تهدف إلى إيصال رسالة إلى الولايات المتحده وحلف شمال الأطلسي، تتعلق بتكثيف الحشود العسكرية في محيط مقاطعة كالينينغراد، أي في بولندا ودول البلطيق، وهي حشود تشكل ليس فقط استفزازاً خطيراً لروسيا وقواتها المسلحة وإنما تهديداً عسكرياً مباشراً لجزء من أراضي الدولة الروسية.
بالتالي فإنّ الرسالة التي يُراد إيصالها للمحور الأميركي الأوروبي، عبر هذه المناورات، أنّ حشودكم العسكريه لن تفيدكم في شيء، وذلك لأن القوات المسلحة الروسية جاهزة وقادرة ومستعدة على مدار الساعة لسحق أي تحرك عسكري لقواتكم قد يشكل تهديداً لمنطقة كالينينغراد.
ومن نافل القول طبعاً أن جنرالات البنتاغون وجنرالات الناتو سيفهمون هذه الرسالة بدقة متناهية، بخاصة أنهم على معرفة بالقدرات العسكرية الروسية، وعلى رأسها بطاريات صواريخ إسكندر الروسية القادرة على سحق قوات الناتو المدرعة ووحدات المشاة المحمولة حتى قبل أن تتحرك من مواقعها.
كما لا بد أن يضاف إلى ذلك، أي إلى جدية التعامل الروسي مع الاستفزازات العسكرية الغربية على جبهة كالينينغراد، قيام القيادة العسكرية الروسية بنقل مجموعة من التشكيلات الجوية لطائرات سوخوي 30 /أس أم SU – 30 SM / التابعه للقوات الجو فضائية الروسية، والتي وصلت إلى قاعدة بارانوفيتشي الجوية في جمهورية روسيا البيضاء، لتشكيل مركز تدريب قتالي مشترك لكلتا الدولتين. الأمر الذي يمهّد الطريق أمام نشر تشكيلات جوية قتالية مشتركة على أراضي جمهورية روسيا البيضاء، الأقرب إلى مقاطعة كالينينغراد.
وفي هذا السياق يجب استذكار تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حول احتمالات عقد اتفاقية صلح مع اليابان وتأكيده المشدد على أن الشرط الأساسي لعقد مثل تلك الاتفاقية مع اليابان هو تعهد الولايات المتحده بعدم نشر قواعد دفاع صاروخي جوي في اليابان، أي على الحدود الجنوبية الشرقية لروسيا الاتحادية. ما يعني أن القيادة الروسية تتحرك، في إطار حماية أمنها القومي، بناءً على استراتيجية متكاملة، تضمن سلامة ووحدة أراضي روسيا الاتحادية كاملة، وأن الأمر لا يقتصر على حماية أمن مقاطعة كالينينغراد في شمال غربي روسيا وإنما ايضاً على حماية أمن جنوب شرقي روسيا، الواقعة على سواحل المحيط الهادئ.
كما لا بد من الإشارة إلى أن الاستراتيجية الروسية الشاملة لا تقتصر على المجال العسكري فقط وإنما تعمل، بشكل ديناميكي شامل، على تعزيز الاقتصاد الروسي وتنويع مصادره. فها هو مشروع السيل الشمالي، لتزويد ألمانيا بالغاز الروسي عبر خط أنابيب يمتد تحت بحر البلطيق، يكتمل وسيبدأ العمل به خلال أيام قليلة، على رغم الضغوط الأميركية الهائلة، التي مورست على ألمانيا وعلى رغم العراقيل الأميركية التعسّفية التي وضعت في وجه تنفيذ المشروع.
إلى جانب قيام روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية بالإعلان عن مشروع طيران مشترك ضخم، أعلن عنه خلال معرض ماكس للطيران، الذي افتتح في موسكو بتاريخ 20/7/2021، وعرض خلاله نموذج مصغر لطائرة ركاب عملاقه، روسية صينية مشتركة، لمنافسة شركتي بوينغ الأميركية وإير باص الأوروبية. وهو مشروع يهدف إلى الاستحواذ على 10 في المئة من أسواق بيع طائرات الركاب في العالم. علماً أن الدولتين قد انفقتا 13 مليار دولار على تطوير هذه الطائرة حتى الآن.
إذن فهي استراتيجية أمن قومي شاملة، اقتصادية وسياسية وعسكرية، وليست استراتيجية تقوم على إشعال الحروب وتدمير الدول في العالم، اعتماداً على استخدام القوة العسكرية الغاشمة، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية، التي يقتصر اهتمامها على الجوانب العسكرية في ما تعاني البنى التحتية الأميركية من مشاكل بنيوية عميقة يصعب إيجاد الحلول المناسبة لها والتي سيكون غيابها هو السبب الرئيسي في تسارع أفول الإمبراطورية الأميركية وتعزيز صعود القوى الدولية التي تعتمد التعاون الدولي كأساس للأمن والتنمية والازدهار.
يهلك ملوكاً وستخلف آخرين.
بعدنا طيبين قولوا الله…