أولى

لماذا الآن؟ عودة إلى الصراع في لبنان وعليه

 د. عصام نعمان*

في تصريحه لقناة C.N.N. التلفزيونية الأميركية كان نجيب ميقاتي حزيناً وسعيداً في آن. مبعثُ حزنه انتهاك سيادة لبنان بتمرير مئات صهاريج المازوت الإيراني عبر الحدود اللبنانية ـ السورية دونما ترخيص قانوني من السلطات الرسمية المختصة. مبعث سعادته أن لا دور لحكومته في هذه العملية، بالتالي لا مجال لفرض عقوبات (أميركية) على لبنان!

لم يقل أحد لميقاتي تعليقاً على تصريحه النابض بالحزن والسعادة إنّ للولايات المتحدة سابقة لافتة في تجنيب لبنان عقوباتها موضوع «قانون قيصر» المفروض على سورية. أليست هي التي أجازت لحكومة سلفه حسان دياب استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سورية؟ ثم، ألم يكن لهذا التدبير دور في توليف حكومته بعد 13 شهراً على استقالة حكومة حسان دياب؟

إذاً، مَن وما وراء إعلان شركة «هاليبرتون» الأميركية فوزها بعقد خدمات متكاملة لتنفيذ حملة حفر من ثلاث الى خمس آبار بحثاً عن النفط لمصلحة «إسرائيل» عبر شركة «انرجيون» اليونانية التي تعمل في الاستكشاف والإنتاج ضمن المنطقة البحرية المتنازع عليها بين لبنان ودولة العدو؟

الولايات المتحدة كانت وراء الاتفاق ـ الإطار لمباشرة مباحثات بين لبنان و«إسرائيل» برعاية الأمم المتحدة في مقرّها على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة والتي تعثرت وتوقفت قبل أشهر. فهل كانت شركة «هاليبرتون» الأميركية، ومن ورائها «إسرائيل»، لتعلن عن تلك الصفقة في هذا الوقت تحديداً لو لم تكن برضى واشنطن إنْ لم تكن بإيعاز منها؟

مفتاحُ الإجابة عن هذه الأسئلة ربما يكمن في ردّ نبيه بري على إعلان صفقة «هاليبرتون». فقد اعتبر رئيس مجلس النواب، الحليف الانتخابي لحزب الله، أنّ الإعلان عن هذه الصفقة يعني في الواقع إنهاء الاتفاق ـ الإطار لترسيم الحدود في المنطقة البحرية المتنازع عليها بين لبنان و«إسرائيل».

تصريحُ بري مؤشر إلى أنّ الإعلان عن صفقة «هاليبرتون» هو تدبير انتقامي ضدّ حزب الله. ألم تُعلن وزارة الخزانة الأميركية، بالتزامن مع إعلان صفقة «هاليبرتون»، أنها فرضت عقوبات على رجال أعمال وقنوات مالية تعمل من لبنان والكويت لتمويل حزب الله، وكذلك على شركات واجهة تدعم الحزب وإيران؟

قد يقول قائل إنّ واشنطن أرادت الردّ على حزب الله الذي نجح في استيراد مشتقات النفط الإيراني وتسديد ثمنها بالليرة اللبنانية ما درّ عليه تأييداً سياسياً وشعبياً كبيراً.

ربما هذه التأويلات صحيحة. لكن الأصحّ أن ما تقوم به الولايات المتحدة في هذه الآونة له أبعاد ومرامٍ أكبر وأوسع. إنه مؤشر وشاهد على قيامها بإعادة تقويم وجودها ومصالحها في مجمل منطقة غرب آسيا بعد خروجها المهين من أفغانستان بغية رسم استراتيجية مغايرة ترمي إلى احتواء تداعيات الحدث الأفغاني الجلل من جهة ومخاوف حلفائها الإقليميين على مصالحهم وأمنهم من جهة أخرى.

الإعلان عن صفقة «هاليبرتون» إشارة طمأنة لـِ «اسرائيل» بأنّ أميركا حريصة على «أمنها القومي» ومصالحها الحيوية بدليل اتخاذها تدابير ترمي الى إشعار حزب الله بأنّ وضعاً أمنياً مقلقاً قد جرى اختلاقه في منطقة حدود لبنان الجنوبية لحمله على الاستدارة وتركيز اهتمامه الأمني فيها على حساب اهتمامه الاقتصادي والاجتماعي المستجدّ والمتمثل باستيراد مشتقات النفط من إيران. إلى ذلك، يرمي تدبير واشنطن أيضاً الى استثارة خصوم حزب الله المحليين وتأجيج حملاتهم عليه بدعوى أنه يعطّل بتعاونه مع إيران وتحدّيه لأميركا مصلحة لبنان في إنجاز ترسيم حدود المنطقة البحرية المتنازع عليها مع «إسرائيل» تمهيداً لمباشرة التنقيب عن النفط والغاز في القطاع Block رقم 9 المتداخل فيها.

الأرجح أنّ الولايات المتحدة لن تكتفي بالتدابير آنفة الذكر، ذلك أنّ في جعبتها تدابير أخرى سياسية واقتصادية من شأنها تعزيز مواقف حلفائها المحليين. فهي تستطيع من خلال نفوذها في صندوق النقد الدولي التأثير في وجوه صرف مبلغ الـ1.135  مليون دولار من مخصصات حقوق السحب الخاصة الذي جرى إيداعه مصرف لبنان المركزي لحساب وزارة المالية، إذ بإمكان واشنطن تحديد وجوه صرفه على نحوٍ يخدم مصالح حلفائها في الحكومة والبلاد. كما باستطاعة أميركا من خلال نفوذها في البنك الدولي مساعدة لبنان بمبلغ 546 مليون دولار، والتدخل في تحديد وجوه توظيفه وصرفه بما يخدم حلفائها المحليين.

إلى ذلك كله، تحرص واشنطن على التنسيق والمواءمة بين ما تفعله لمصلحة حلفائها اللبنانيين كما لمصلحة «إسرائيل» في ساحتين أخريين هما سورية والعراق. ففي سورية، يبدو واضحاً أنها عادت إلى دعم التنظيمات المسلحة في مناطق شرق الفرات كما في منطقتي إدلب وغرب حلب ودفعها الى معاداة حكومة دمشق المركزية بالعودة إلى مناوشة ومشاغلة الجيش السوري لإطالة أمد تمركز القوات الأميركية في محافظتي الحسكة ودير الزور حيث مكامن النفط والغاز، كما إطالة تمركزها في منطقة التنف على حدود سورية الشرقية مع العراق حيث المعبر الاستراتيجي (البوكمال ـ القائم) بين البلدين، لتكون قادرة على تعطيله متى تشاء.

إنّ انخراط الولايات المتحدة في كلّ هذه التدابير والتحركات والمناورات في لبنان وسورية والعراق لا يعني بالضرورة أنها ستنجح بل يعني أنّ الصراع في هذه الساحات ناشط ومتصاعد وأنّ كلّ القوى المتصارعة جادة وحريصة على تحقيق أهدافها بوسائل وعمليات متعددة، سياسية واقتصادية وعسكرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى