الحكومة أمام امتحان صعب والخطر عليها من المافيات وتجار الاحتكار فهل «تضرب الحديد وهو حام» قبل فوات الأوان؟
} علي بدر الدين
لطالما انتظر اللبنانيون ولادة الحكومة، لأنهم وعِدوا بأنها ستكون خاتمة آلامهم وفقرهم وجوعهم، والذلّ الذي يتربّص بهم، على محطات المحروقات والصيدليات والأفران ومحال الصيرفة، وأنها ستنجح في وقف الانهيارات المتتالية، ووضع حدّ للغلاء الذي بلغ حداً جنونياً، ومن أولوياتها تقويض أسس الفساد ومحاربة «مافيات» البنزين والمازوت ومحتكري الدواء والغذاء والكهرباء، والكشف عنهم وسوْقهم جهراً إلى المحاكم للمساءلة والمحاسبة والعقاب.
كلها مجرد أحلام سوف تتطاير في الهواء، وتتبخر على نار السلطة السياسية والمالية، التي لا تزال قادرة على التحكم بها وإشعالها متى شاءت، لحرق اليابس والأخضر كلما شعرت أنّ مصالحها وامتيازاتها ومواقعها السلطوية وثرواتها المالية الضخمة في خطر، وأنّ الاقتراب منها ممنوع والمساس بها خط أحمر. وهي وإنْ سهّلت طريق تأليف الحكومة، ووافقت على بيانها الوزاري، وتمثلت فيها ومنحتها ثقتها، فهذا لا يعني بالنسبة لها ان «تدوس الحكومة لها على طرف»، أو تهدّد مصالحها و»تضرب» «مافياتها» وتجارها وأتباعها، وتحرم كلّ هذا الخليط من الشركاء والمتواطئين، من جني أرباح خيالية من خلال التلاعب بسعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، وبارتفاع أسعار البنزين المخزن والمحتكر حيث زاد سعر «التنكة» الواحدة (20 ليتراً) ستماية بالمائة في الأشهر الأخيرة، وكذلك أسعار المازوت التي أصبحت بالدولار!
هذا يعني ببساطة انّ السلطة بشقيها السياسي والمالي، لن تعطي حكومة «معاً للإنقاذ» فرصة حقيقية لإحداث أيّ خرق أو فرق على أيّ مستوى او صعيد، أو في ايّ قطاع او ملف، لا سيما الذي لا يزال «يبيض» لها ذهباً، وتحديداً قطاع المشتقات النفطية المتفلّت من أية ضوابط، والخاضع للسوق السوداء والفلتان كأنه سلعة سائبة تتقاذفها «مافيات» السوق والسلطة والنفوذ، التي أذلّت الشعب اللبناني برمته ولا تزال، ولم تستثن أحداً، لا طائفة ولا مذهباً ولا منطقة ولا حزباً، وحتى الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وسلطاتها لم تسلم من عصاباتها، تجار الاحتكار والفساد والتحاصص والسطو، ليس فقط على مادتي البنزين والمازوت اللتين ارتفعت أسعارهما، بذريعة رفع الدعم عنهما، لكنه لم يلغ طوابير الذل، ربما لارتفاع جديد في الأسعار وتحقيق أرباح إضافية.
ليس من عدم أو فراغ، أن تخرج الأزمات والمشكلات والملفات الخلافية المجمّدة دفعة واحدة، بعد أن أبصرت الحكومة النور ونالت الثقة وقدّمت الوعود التي يمكن ان تفي ببعضها خلال فترة مسؤوليتها، وإصرارها على التصدي لكلّ الأزمات، وتحديداً الخدماتية منها وانّ سرعة «إنجازاتها» ستفاجئ الداخل والخارج كمّاً ونوعاً بل ستبهرهما، ودعمها الرئيس نبيه بري بإعلانه انّ عنوان هذه الحكومة سيبدأ بـ «حيّ على خير العمل»، في حين تسابقت الدول القريبة والبعيدة لتهنئة لبنان وشعبه بتأليفها، لو بعد مخاضات عسيرة على مدى ١٣ شهراً من التجاذبات والسجالات والصراعات عليها، شكلاً وحجماً وحصصاً وحقائب وأسماء، وثلثاً معطلاً وآخر غير معطل. مدعومة بالوعود والمساعدات من دول خارجية وأخرى إقليمية وعربية لدعم لبنان مالياً واقتصادياً وخدماتياً وكهربائياً ونفطياً، ومنها ما تمّت ترجمته ميدانياً مثل وصول المازوت الإيراني والفيول العراقي، وقريباً التيار الكهربائي، بتعاون ثلاثي مصري أردني سوري، ثم دعم صندوق النقد الدولي المشروط بالإصلاح وإجراءات اقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية قاسية، في حين انّ الآمال معقودة ايضاً على زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى فرنسا اليوم، وماذا سيحمل معه من دعم ومساعدة من فرنسا «الدولة الصديقة للبنان والحريصة»، خاصة انه سبق الزيارة حديث عن مؤتمر دعم للبنان آخر الشهر الحالي يُعقد في باريس وسيؤمّن «دفعة مالية حرزانة» للبنان.
«الحرص» الخارجي يقابله استلشاق داخلي من بعض القوى السياسية الموالية منها والمعارضة، وتمرّد على الحكومة والشعب، وتغليب المصالح الخاصة لتحصيل المزيد من المكاسب، ووضع عصي «المافيات» المدعومة من الشركاء في السلطة وخارجها في دواليب هذه الحكومة التي تستحق الشفقة، لأنها وحيدة ستكون في المواجهة، لاعتقاد بعض هذه القوى انّ «عظم الحكومة ضعيف ولحمها طري»، وقرارها في مكان آخر داخل الحدود وخارجها، وان الظروف التي سبقت التأليف والشروط الموضوعة من هذا البعض أياً يكن، والدور المرسوم لها، لن تكون كافية للمراهنة عليها ومنحها أكثر ما تستحق، والمنطقة مقبلة على تسويات وتفاهمات وربما رسم خرائط جديدة، ولبنان مقبل على استحقاقات انتخابية بالجملة، وعليها يتوقف المستقبل السياسي والسلطوي لكثير من القوى السياسية والطائفية المذهبية المزمنة.
هذا يفرض على قوى سياسية بعينها عدم التفريط بأوراق القوة التي امتلكتها بغفلة عن الشعب ومن الزمن، من أجل «خاطر» هذه الحكومة او كرمى عيون رعاتها المحليين أو الإقليميين والدوليين، وكله بوقته وثمنه ومقابله، يعني «ما في شي ببلاش»، لذا لا غرابة في إقدام البعض على
إشغال الحكومة والشعب بقضايا وملفات يمكن تأجيلها او ترحيلها، لأنّ الأولوية يجب ان تكون لإعادة بناء الدولة وإنقاذ مؤسساتها، وهذا الشعب الغارق حتى أذنيه بالفقر والجوع والمرض والذلّ والحرمان والإهمال والبطالة، وأن فتح أيّ ملف آخر، جريمة لا تبرّر ولا تغتفر.
في الأساس لا يمكن الرهان على هذه الحكومة ولا على أيّ حكومة، مهما كانت صفاتها، ما دامت ولادتها حصلت على أيادي الطبقة السياسية الحاكمة منذ ثلاثة عقود، والذي لا يزال الشعب يحصد من زرعها الفاسد، الكوارث والمآسي والأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية، التي تزداد تفاقماً وخطراً، ولكن البلد يحتاج إلى حكومة اليوم أو غداً او بعد غد او في أي وقت مهما طال، لأنّ التغيير المطلوب لم يحصل، والشعب لم يتحرك بالقدر والقوة والفعل الذي قد يحدث هذا التغيير ويخلص لبنان من الطبقة السياسية المتسلطة والمستبدة والطاغية والفاسدة والمتحاصصة، خاصة أنّ العالم كله، كدول ومؤسسات نقدية دولية يقول للبنانيين، إن لا مساعدات ولا قروض ولا دعم لكم ولدولتكم إذا لم تتشكل حكومة، وقد تشكلت للأسف على الطريقة اللبنانية التقليدية وبالأساليب ذاتها والحكام أنفسهم، وهذا هو الموجود أعجب الشعب اللبناني أو لم يعجبه، شاء أو أبى، وعليه ان يتحمّل مسؤولية أكثر من غيره، لأنه قبل بأوضاعه وما حلّ به، وسكت على كلّ ما فعلته به السلطة السياسية الحاكمة.
الحكومة أصبحت أمراً واقعاً سياسياً سلطوياً، وقد نالت شرعيتها وقانونيتها من لبنان والخارج والاعتراف بها سيد الأدلة ووجب على الجميع التعاطي معها على هذا الأساس، وتركها تعمل من دون عراقيل وطمع وجشع واحتكار وذلّ للشعب، وهي أمام امتحان صعب، وحكماً في وضع لا تحسد عليه، والخطر المتربّص بها، يبدو أنه من بعض أصدقائها قبل غيرهم.