خطاب الرئيس…
سعادة مصطفى أرشيد _
في زمن مضى، كان افتتاح أعمال الدورة السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة يُعتبر حدثاً هاماً، إذ إنّ الخطب التي يلقيها الملوك والرؤساء، كانت تعبّر عن سياساتهم التي سيسيرون عليها في ذلك العام، ولكن هذه الظاهرة، قد أخذت بالتلاشي ولم تعد تحتلّ أهميتها السابقة، فهي كلمات وخطب مكررة وممجوجة، فالأمم المتحدة بذاتها لم تعد مهمة منذ انهيار العالم ثنائي القطبية في تسعينات القرن الماضي، وأصبحت أداة رخيصة بيد الولايات المتحدة، وقد انسحبت هذه الظاهرة على كثير من المؤتمرات وعلى رأسها مؤتمرات القمة العربية، وربما لا يزال مؤتمر واحد يحتلّ بعضاً من الأهمية، إلا وهو مؤتمر البيئة وتغيّرات المناخ.
من شاهد وتابع أعمال الدورة الجديدة للجمعية العامة في نيويورك الأسبوع الماضي، لا بدّ له من أن يلاحظ أنّ أعضاء الوفود كانوا يتركون الخطيب ويغادرون القاعة الرئيسية، جميعاً أو تاركين أحدهم ليجلس مضطراً بملل لأنه يستمع لخطب ليس بها من جديد أو مهمّ، ولا يتوقع من حضر أو من غادر أن يسمع كلاماً مهمّاً صادراً عن هذا الرئيس أو ذاك الملك، في حين ينبري الإعلام الرسمي الذي لم يعد يشاهده إلا القليل، ومعه بعض المعلقين السائرين بركاب الحكم والحكومة، بتبجيل الخطاب، والحديث عن جوانبه الاستراتيجية ورؤاه السياسة، واجتراح عبقريات زائفة لا علاقة لها بنص بالخطاب، وربما لا يدري عنها الخطيب.
ما هو مهمّ في مناسبة افتتاح الدورة السنوية للأمم المتحدة، ليس ما يدور في القاعة الشهيرة، وإنما ما يجري في كواليس الأمم المتحدة، وفي الفنادق المجاورة من لقاءات بين رؤساء الوفود، كانت قد أعدّت مسبقاً.
هذا ما راهنت عليه الدبلوماسية الفلسطينية بداية، وكانت قد جرت العادة أن يذهب الرئيس الفلسطيني في رحلة سنوية لإلقاء خطابه، وقد أعدّ لهذه الرحلة بشكل جيد وحثيث، وأخذت تأشيرات الدخول للولايات المتحدة، ولكن في اللحظة الأخيرة، قرّر الرئيس عدم الذهاب وإرسال كلمة مسجلة، كانت قد سادت حالة من التفاؤل لدى القيادة الفلسطينية أثناء حرب سيف القدس، إذ اتصال الرئيس الأميركي بايدن بأبي مازن، وأثر ذلك الاتصال انهالت الاتصالات على الرئيس الفلسطيني من أكثر من حدب عربي وأكثر من صوب دولي، وتم الافتراض أن الحرارة قد عادت إلى خطوط الاتصال، وأنّ العزلة قد انتهت، وهو التقدير الذي لم يكن دقيقاً، فالاتصالات لم تكن أكثر من حالة مؤقتة وعاجلة، ومرتبطة بارتفاع حدة المواجهة في معركة سيف القدس، ولم تستطع الدبلوماسية الفلسطينية ترتيب لقاء بين الرئيس الفلسطيني والرئيس الأميركي، على هامش الدورة السنوية للأمم المتحدة، وبحسب ما أوردت صحيفة «الغارديان» البريطانية، أنّ الإدارة الأميركية لا ترى أنّ لقاء بايدن مع أبي مازن سيأتي بجديد، لهذا ارتأت أن لا داعي له، وهكذا بقي الرئيس في رام الله، واكتفى بخطابه المسجل.
بعيداً من اختراع المواقف، واجتراح الاستراتيجيات، فقد كان هناك جديد في الخطاب الفلسطيني هذه السنة، الجديد الأول كان في المشهد والخرائط التي ظهرت خلف الرئيس، واحدة لفلسطين الانتدابية كاملة، وأخرى لخريطة التقسيم 1947، وثالثة لخريطة صباح الخامس من حزيران عام 1967 والخريطة الأخيرة للواقع الحالي حيث التهم الاستيطان معظمها ولم يبق منها إلا فتات متناثر، وكان لتعليق الخرائط علاقة بما ورد لاحقاً في الخطاب، والجديد الثاني هو في ارتفاع نبرة الرئيس في الحديث عن مظلومية الشعب الفلسطيني، لا بل ومظلوميته الشخصية باعتباره أحد أفراد هذا الشعب المنكوب، وذلك برفع أوراق ملكيته الشخصية، فقد طفح الكيل، وأن الشعب الفلسطيني في مواجهة مع الحقيقة وكذلك مع الاحتلال، وأن الشعب الفلسطيني لم يعد قادراً على الاستمرار في تحمّل المزيد، الجديد الثالث كان في الحديث عن الجهد الذي بذله ومعه من يمثل من جهود لإقناع الشعب بقبول وجهة النظر القائلة إنّ العنف (الكفاح المسلح) أمر لا يعود بالفائدة لا على الشعب الفلسطيني ولا على قضيته وحقوق أبنائه، وقد جرّب لفترة طويلة وعاد بالمصائب والكوارث، وأن الطريق الوحيد لإقامة الدولة الفلسطينية، والوصول إلى حل عادل هي طريق المفاوضات، وهو أمر يبدو أن الرئيس الفلسطيني قد أخذ يشكّ في سلامة هذا الخيار الذي جرّب لفترة تفوق الفترة التي جرب بها الكفاح المسلح وعاد على الشعب الفلسطيني بنتائج أكثر كارثية، وأكد أنه شخصياً قد ناضل طويلاً من أجل السلام وصناعته، وأنه لم يتبع إلا الطرق القانونية والسلمية والدبلوماسية، إضافة إلى العمل في الإطار الدولي، ولكنه مع كل ذلك لا يجد شريكاً في «إسرائيل»، أما الجديد الرابع فهو إعطاء «إسرائيل» مهلاً لسنة واحدة للانسحاب (يبدو من دون قيد أو شرط) من الأراضي التي احتلت عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وإلا… فالفلسطينيون سيسحبون اعترافهم بـ»إسرائيل» ويتنصّلون من الاتفاقيات المبرمة معها، ويعودون للمطالبة بالالتزام بقرار التقسيم الذي كان قد صدر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1947، ثم عاد الخطاب للحديث عن مؤتمر دولي بإشراف الأمين العام للأمم المتحدة ـ وقد طالبه بالعمل على ذلك ـ وبمشاركة دولية.
جاء الردّ «الإسرائيلي» الأسرع على لسان السفير «الإسرائيلي» في الجمعية العمومية، الذي نعى على الرئيس الفلسطيني عدم مشروعيته، وقال إنّ استطلاعات الرأي تؤكد أن 80 في المئة من الشعب الفلسطيني قد فقد الثقة بقيادته، فيما جاء الردّ الثاني على لسان وزير الدفاع بيني غانتس، الذي اعتبر أنّ الرئيس عباس قد صعد إلى شجرة عالية، وذكر أنّ لقاءه السابق مع الرئيس كان لبحث ملفات أمنية، لا ملفات سياسية.
الحكومة «الإسرائيلية» الحالية، كما سابقتها بقيادة نتنياهو، كما أية حكومة «إسرائيلية» قادمة في المنظور السياسي، وفي ظل التوجهات اليمينية السائرة دوما نحو مزيد من التطرف، لن تقبل أي منها لا بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967، ولا على الانسحاب لسنتمتر واحد، ولن تقبل بدولة فلسطينية مهما بلغ ضعفها وهوانها، ومهما نزع منها من صلاحيات وسيادة، فالأمر لن يتمّ بطلب من الرئيس أو من العالم أجمع، هذا الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا حينما تواجه «إسرائيل» هزيمة غير منظورة في عالم اليوم، ولكن «إسرائيل» ترى أنها تحقق أكثر من نصر سياسي ودبلوماسي سواء الذي يتجلى في الدعم الأميركي والغربي وفي التطبيع العربي، وعدا عما يقال عن تحالف «إسرائيلي» عربي (سني) في مواجهه إيران.
الإدارة الأميركية، التي لم تجد لديها شيئاً من الوقت لاستقبال الرئيس الفلسطيني، نراها وقد أصبح من الواضح أنها لا تلقي بالاً للملف الفلسطيني ولا لغيره من ملفات المنطقة، وهي في مرحلة الخروج من الشرق الأوسط والتموضع مع شريكيها الأسترالي والبريطاني في بحر الصين، لذلك هي بصدد تلزيم مصالحها وملفات المنطقة لشركاء وحلفاء إقليميين، وبالطبع أولهم وأهمّهم «إسرائيل».
السؤال الجوهري هو: ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية في هذا الوقت القصير استعداداً لانتهاء السنة التي تحدث عنها خطاب الرئيس؟ هل لديها الخطط والبرامج؟ هل ستقوم بتنفيذ قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي؟ هل ستذهب باتجاه مصالحة حقيقية تنهى هذا الانقسام المشين، وتعيد الاعتبار لبرنامج حدّ أدنى يتوافق عليه الشعب الفلسطيني؟ هل سنذهب نحو انتخابات رئاسية وتشريعية تعيد تجديد النظام السياسي الفلسطيني؟ هل ستعالج القضايا الداخلية والأوضاع الأمنية والاجتماعية التي تتهدد المواطن، وقد أخذنا نرى ـ والسلطة ترى معنا، ظاهرة انتشار السلاح، وعدم الخوف من استعماله، ووجوده بأيدي الميليشيات العشائرية وغير العشائرية؟ وماذا عن إطلاق الحريات العامة وضبط التجاوزات، وإصلاح القضاء وتفعيله؟
أخيراً، هل صاحب القرار الفلسطيني جاد في طرح فكرة العودة إلى قرار التقسيم الصادر عام 1947، بعد كل ما التزم به الفلسطيني بعد ذلك، خصوصاً منذ توقيع اتفاق أوسلو 1993، وأية حسابات تدعوه إلى طرح هذا الخيار الذي لا يلتقي مع مجريات السياسة، أو مع الوسائل التي تدعو إليها السلطة الفلسطينية وكما وردت في خطاب الرئيس.