هل يبقى للبنانيّين مرقد عنزة إذا ارتمى لبنان في أحضان الصندوق؟
} علي بدر الدين
لا يختلف اثنان في هذا البلد المنكوب، على أنّ طريق الانهيارات لا تزال مفتوحة على المعلوم المدمّر، من دون وجود أية مؤشرات سياسية أو اقتصادية أو مالية، توحي بأنّ «الفرج آت»، وانّ المعالجات والحلول بدأت فعلياً بخرق جدار الأزمات والمشكلات المزمنة المتراكمة، بعد طول انتظار وأمل وألم ومعاناة، فالذي يطفو على السطح لا يبشر بالخير ولا بالإيجابيات التي كانت متوقعة، خاصة بعد تأليف حكومة «معاً للإنقاذ» التي تمّ التعويل عليها، أقله لفرملة الانزلاقات السريعة نحو المجهول، ولحماية ما تبقى من أشلاء دولة ومجتمع ومؤسسات، يشكل وجودها، حصانة الحدّ الأدنى لمنع تمدّد هذه الانهيارات الشاملة التي طرقت الأبواب ودخلت كلّ بيت ومؤسسة وقطاع، على وقع عجز كلي من السلطة السياسية الحاكمة، وفشل ذريع منها في إدارة شؤون البلاد والعباد على مدى ثلاثة عقود من الحكم بقوة السلطة والمال والنفوذ والفساد، وهي في الأساس سمات متلازمة لها منذ اتفاق الطائف الملغوم في العديد من مواده وبنوده وقراراته وتوصياته المخفي منها «ألعن وأعظم»، حيث جيّر كلّ السلطات والصلاحيات والقرارات لأمراء الحرب، الذين نالوا بين ليلة وضحاها «شرف» صناع السلام وأمرائه من المشغلين والمموّلين وأصحاب «الأجندات» والمصالح الكبرى والمشاريع السياسية والاقتصادية المشبوهة.
نجح هؤلاء «الأمراء» القدامى منهم والجدد، من خلال هذا الاتفاق في «وقف» المعارك العسكرية وحروب الشوارع، وحال دون امتداداتها وتداعياتها الخطيرة، التي لامست الخطوط الحمر الطائفية والمذهبية والعنصرية و»الحضارية»، وكادت أن تطيح بمصالح الكبار والصغار من الدول التي دخلت عنوة أو بالرضى على خطوط الأزمة اللبنانية، التي تحوّلت الى كرة نار، ستحرق «مشاريع» الجميع ومخططاتهم، وتخربط خرائطهم المعدة سلفاً للمنطقة ولبنان من ضمنها.
بدلاً من أن يتحوّل ما تمّ الاتفاق عليه في الطائف على «حسناته» و»علاته»، إلى مشروع حلّ يوظف في عملية إنقاذ لبنان من حروب الطوائف والمذاهب والميليشيات والمصالح وصراعاتها المزمنة، ومن الذين دخلوا اليه من كلّ صوب بعناوين وشعارات مزيّفة، لا هدف منها، سوى حجز مقاعد لهم في قطار وضع اليد والسيطرة على الدولة بكلّ مقدراتها الاقتصادية والمالية والخدماتية والمؤسساتية، خاضوا معارك من نوع آخر، أشدّ خطراً على لبنان وأكثر فتكاً بشعبه، تمثلت بتعميم «ثقافة» الفساد، والنهب والتحاصص والسطو على اموال الدولة والشعب في المصارف وخارجها، وفي تجاوز الأنظمة والقوانين التي تنظم عمل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وسلطاتها، وفي جعل لبنان محميات خاصة، ولكلّ مسؤول وسلطوي ومستبدّ بيئاته الحاضنة وأتباعه وأزلامه، ولهم قوانينهم الانتخابية المتحركة والمتحوّلة، التي تفصّل على قياسهم، وتؤمّن لهم مقوّمات الفوز في كلّ دورة انتخابية، وتعيد إنتاجهم حتى من دون خسائر يعوّل عليها لصالح الاصلاح والتغيير والإنقاذ.
هذه السلطة بالجملة والمفرّق، بدأت بفتح ملفات خلافية منها التي كانت مجمّدة ومخفية، ومنها المستجدّ لزوم «المعركة» الانتخابية النيابية المقرّرة مبدئياً في العام المقبل، لأنّ الشكوك حول إجراء هذه الانتخابات في المهلة الدستورية، بدأت تتسرّب من جهات حزبية وسياسية، رغم تأكيدات الحكومة وقوى سياسية فاعلة والمجتمع الدولي، أنها ستحصل في وقتها، لأنها حاجة وضرورة وطنية، وأنّ محاولات تعطيلها لن تنجح، وليغني كلّ فريق على مصالحه وحظوظه وفق منطق الربح والخسارة.
الأسوأ في ما يحصل على مستوى الانتخابات النيابية الموعودة، وغيرها من القضايا التي يُثار غبارها بكثافة هذه الأيام، وتشكل الشغل الشاغل لكلّ القوى السياسية والطائفية والمذهبية والحزبية والسلطوية ومحاولات تحويلها إلى «أمّ المعارك»، التي عليها يتوقف حجمها ومستقبلها السياسي ومصيرها السلطوي واستمرار طغيان نفوذها، رغم الانهيارات المتتالية التي تعصف بالبلد، على غير مستوى اقتصادي ومالي واجتماعي ومعيشي وخدماتي، وقد «أثمرت» مزيداً من الفقر والجوع والبطالة والذلّ والحرمان والإهمال والعتمة الشاملة، وفقدان المحروقات والدواء والغذاء، وانْ وجدت فبأسعار خيالية، وتتحكم فيها «مافيات» السوق السوداء وتجار الاحتكار والجشع، من دون أن يرى الشعب الحماس والاندفاع وادّعاء الحرص من مكونات المنظومة السياسية، فيما يتعلق بهمومه ومعاناته ومصالحه وحقوقه وحاجاته، وقد تفرّغت كلياً للاستحقاق الانتخابي الذي لا تزال خيارات التأجيل والترحيل والتمديد قائمة وتعوّل عليها قوى سياسية، لأنها لا ترى انّ مصلحتها تكمن في حصولها. ومن بعد مصالحها لا «ينبت حشيش»، خاصة انّ الخط البياني للأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية يسير في اتجاه تفاقمي خطير يتمثل في ارتفاع مستمرّ لسعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، يواكبه غلاء فاحش وجنوني غير مسبوق لكلّ السلع والمواد الغذائية الضرورية والمحروقات، والانقطاع الدائم والمتقطع لها، مع «نغمة» دولرة المازوت والغاز، وفرض أمر واقع جديد على المستهلك، الذي أهلكته العتمة الشاملة بانقطاع كلي للتيار الكهربائي، والذي يبرّر بكلّ وقاحة بفقدان مادة الفيول وغيرها من المواد التشغيلية.
زاد الطين بلة، قول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في «عز دين» هذه الأزمات انّ «اليد قصيرة والعين بصيرة»، كأنه يستبق ما هو مطلوب من الحكومة، او لتبرير عدم القدرة على إحداث خرق أو فرق او تغيير نحو الأفضل في الآتي من الأيام، خاصة أنّ شعار حكومته «معاً للإنقاذ».
هذا القول أحبط آمال كثير من اللبنانيين الذين كانوا على موعد او على قناعة ان تحقق هذه الحكومة ما عجزت عن تحقيقه الحكومات السابقة المتعاقبة، وانعكاساته السلبية، تتزامن مع أزمات مستجدة في الاوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدماتية تتمثل بانقطاع التيار الكهربائي في كلّ لبنان، وفي احتكار الغاز ودولرة سعره، وفي تحليق سعر صرف الدولار، من دون أن تنجح الحكومة باتخاذ أيّ إجراء يضع حداً لما يجري، أو هي في صدد اتخاذه، لأنّ مصالح المنظومة السياسية الحاكمة أقوى وهي صاحبة القرار.
كلّ ما فعلته الحكومة، هو تشكيل الوفد الذي سيفاوض صندوق النقد الدولي، حيث آمالها معلقة على نتائج التفاوض، الذي يبدو انه فرصة الأمل والإنقاذ الأخيرة الموعودة، ولكن تحت ضغوط وشروط المجتمع الدولي، التي لا تنتهي وينقلها الموفدون والرسل والسفراء الخارجيون إلى «المسؤولين» في لبنان والتوسّط معهم للقبول بها، وإبداء النصائح لهم، لأنها «فرصة» للبنان قد لا تتكرّر، مع أنها ستكون وبالاً على اللبنانيين.
انّ ما يحصل، يؤكد انّ الآتي على لبنان لن يكون برداً وسلاماً، وليس هناك ما يشير إلى خلاصه، أقله في المدى المنظور، لأنه ارتبط عضوياً بما يقرّره المجتمع الدولي وصندوق نقده. الخوف والقلق من ضياع البلد في متاهات صراع المصالح والمحاور الإقليمية والدولية، إلى حين تقاطعها، على أمل أن يبقى للبنانيين فيه، مربط فرس، او مرقد عنزة.