المقاومة تقدّم مثالاً جديداً في الانضباط والوطنية رغم الدماء وحجم المظلومية
} محمد حمية
يسودُ في أوساط جمهور المقاومة وبيئتها الحاضنة غليان وغضب شديدين إزاء هول “كمين الطيونة” ومشهد الشهداء والجرحى الذي يصل إلى جريمة حرب، إذ بذلت قيادتا حركة أمل وحزب الله جهوداً مضنية لاحتواء الشارع والحؤول دون حصول ردود فعل تؤدي بالبلاد إلى فتنة لا تحمد عقباها، وكان القرار لدى القيادتين ترك المعالجة الأمنية والقضائية للأجهزة المعنية ضمن فترة محددة قبل البناء على الشيء مقتضاه، مع التمسك بتنحية المحقق العدلي طارق البيطار عن ملف تحقيقات المرفأ.
لكن الجمهور الذي حمل دماء شهدائه بقلبٍ حارّ يفيض حزناً، استجاب لدعوات قيادته التي يثق بها وانضبط لكن على مضض مترافق مع تساؤلات ولوم وانتقاد للقيادتين تمحورا حول نقطتين ساهم الإعلام المشبوه في تغذيتها: الأول عدم تأمين الحماية الأمنية المطلوبة للتظاهرة وترك المتظاهرين مكشوفين نهباً للقناصة، مع افتراض بأنّ القيادتين على علمٍ بتحضيرات تقوم بها “القوات” لعمل أمني مضاد ظهر في كلام جعجع والجميّل قبل يوم واحد من التظاهرة، والنقطة الثانية منع القيادتين هذا الجمهور من الثأر لدماء شهدائهم طالماً أنّ هؤلاء هم أيادٍ صهيونة وليست لبنانية.
قد تكون هذه الدعوات مشروعة في ظلّ أجواء الغضب التي تخيّم على هذا الجمهور، لا سيما أنّ الدم لم يبرد لتوّه، لكن عندما يضع الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله قريباً هذا الجمهور بحيثيات ومعطيات مؤامرة المرفأ من تركيب ملفات وفبركة شهود زور كمقدمة لاتهام حزب الله بالتفجير في متن القرار الظني الذي يعدّه القاضي البيطار، وعندما يتوافر لدى القيادتين معلومات ومعطيات عن فتنة تحضر لاستدراج الحزب والحركة لحرب أهلية طاحنة تحاصر المقاومة بين مطرقة الحرب الطائفية وسندان قرار ظني بتفجير المرفأ، يختلف الموقف وتتغيّر الحسابات والتوجهات. أما الحديث عن ضرورة إلغاء التظاهرة لمجرد احتمال الخطر الأمني، فإنّ اللجان المنظمة للتظاهرة تلقت توجيهات من القيادتين بعدم المرور من مناطق تسبّب الاستفزاز للآخرين، لذلك تقرّر التجمع في مثلث الطيونة الذي يجمع كافة الأطياف وغير محسوب على أحد الأطراف، لكن رصاصات القناصة الغادرة لاحقت المتظاهرين إلى هذا المثلث للنيل منهم.
لا يختلف اثنان على استحالة المقارنة بين القدرات العسكرية والأمنية والبشرية والعامل الجغرافي وخبرة القتال بين حزب الله وأمل وبين القوات رغم الحديث عن عمليات تسلح وتدريب تقوم بها، لذلك يميل الميزان بأضعاف لصالح الحزب والحركة، لكن هل المطلوب استخدام هذ الفائض للدخول إلى مناطق عين الرمانة للقيام بعمليات انتقام طائفية؟ هل يؤدي ذلك الى نتيجة ويعيد الشهداء وحق ذويهم؟ ألن يؤدّي ذلك إلى إزهاق أرواح أبرياء وتدمير ممتلكاتهم لأنهم فقط يقطنون في تلك المنطقة وقد لا ينتمون الى القوات؟ ألن يستدعي هذا ردود فعل مقابلة وقتال شوارع وينتقل إلى مناطق أخرى كالنار في الهشيم وتدخل أجهزة خارجية على الخط ونستعيد سيناريو حرب 1975 التي لا تزال نارها خامدة تحت الرماد رغم تغليفها بالمصالحات والتسويات السياسية والانتخابية؟ فإذا كان هذا هو المخطط وهدف كمين الطيونة، فهل هكذا يتمّ إفشاله وحماية جمهور المقاومة وتجنيبه كأس الفتنة؟
وما يجب الإضاءة عليه هو أنّ هذا الجمهور الذي يتعرّض لظلم إعلامي واجتماعي مستمرّ، سجل في “كمين الطيونة” مثالاً جديداً من الانضباط والوطنية رغم مرارة الشهادة وحجم المظلومية، ما يجعله نموذجاً فريداً في الوعي ونبذ الفتنة والانتماء الوطني إذا ما أضفنا انضباطه على مدى عام ونصف العام تجاه ممارسات ما يسمّى “الثوار” في ساحتي الشهداء ورياض الصلح وعلى “كمين خلدة” وحادثة شويا وغيرها، رغم تشكيك البعض بانتماء هذا الجمهور للبنان.
وهذا النموذج هو أهمّ مصدر تفوّق هذا الجمهور وقيادته في إدارة الصراع مع الأميركيين و”الإسرائيليين” وتحقيق الانتصارات.
أما انتقاد البعض لأمل وحزب الله بإبقاء التظاهرة رغم الإحاطة بالمخاطر وترك المتظاهرين فريسة القناصة فداء لبعض الشخصيات السياسية وعدم الأخذ بالثأر، فهؤلاء نوعان: الأول يقول ذلك من اندفاعة وحزن صادق على الشهداء وهو محق بمكان بأن يمكن للقيادتين تغيير نقطة التجمع والمسار أو اتخاذ الاجراءات الأمنية الخاصة أو تكليف الجيش مسح المنطقة المحيطة بالتظاهرة. أما النوع الثاني فعن نوايا خبيثة لبث شك جمهور المقاومة بقيادته، علماً أنّ هذا النوع الثاني هو نفسه كان يأخذ على الحزب والحركة تمنّعهما عن النزول إلى الشارع للتظاهر في القضايا المعيشية حتى لو أدّى ذلك إلى الفتنة، فلماذا إذاً ينتقد استمرار تظاهرة العدلية التي يتهم هذا البعض أنّ القيادتين على علم بالفتنة المدبّرة؟
أما انتقاد سرعة قرار التظاهر في موضوع سياسي كاتهام وزيرين من أمل بتفجير المرفأ وتجاهل التظاهر من أجل الملفات المعيشية، فمقارنة غير منطقية. فهل تجاهل الثانية سبب لتحريم وتجريم التظاهر من أجل السبب الأول؟ علماً أنّ من يعلم خفايا وخبايا ملف المرفأ يدرك أنه أهمّ وأخطر بأضعاف من القضايا الحياتية، لأنه يجرّ إلى فتنة قد لا تُبقي بلداً لكي يبقى اقتصاد.
سيبقى جمهور المقاومة نموذجاً للرقيّ والوطنية، أكان في الصبر على ممارسات أعداء الخارج وعملائهم في الداخل، أو في كشف المؤامرات ووأد الفتن مهما تعرّض هذا الجمهور لسهام التشويه، فهل تستطيع الشوارع الأخرى ذلك إن أصيبت بهذا الظلم والضيم؟