هل يوجد قضاء بجرؤ على اتهام جعجع؟
ناصر قنديل
– قبل ربع قرن تجرأ قضاة المجلس العدلي الذين لا يمكن توصيفهم كأدوات تعمل لدى ما سُمّي بنظام أمني سوري لبناني، وهم خيرة الجسم القضائي في لبنان وأعلى مراتب قضاته، وأكثرهم نزاهة، وأصدروا أحكاماً بحق قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، ولأنّ أحكامهم يصعب إبطالها لم يجرؤ الذين أرادوا إعادة جعجع إلى الحياة السياسية على طلب إعادة محاكمته بموجب قانون خاص، بل أصدروا عفواً ينهي عقوبته ولا يعيد تقديمه للمحاكمة التي يفترض أن تعلن براءته إذا كانت الأحكام مسيّسة كما يزعم، حصل ذلك في لحظة استثمار الانقلاب الأمني والسياسي الذي تحقق تحت كذبة التحقيق الدولي (المهني والمحترف والنزيه)، حيث تم سجن القادة الأمنيين بتهمة التورط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وفقاً لشهادات زور، وأخليت الساحة هذه المرة لتركيب نظام أمني أميركي لبناني مشترك لا يزال قائماً في الميدانين الأمني والقضائي، لا بل تمت عملية رعاية تجذيره وتطويره، بينما كانت المقاومة وحلفاؤها يحصرون معاركهم في رسم التوازنات السياسية للسلطة، برلماناً وحكومة ورئاسات.
– خلال مرحلة ما بعد خروج جعجع من السجن حرصت ماكينته الحزبية، وحرص شخصياً على بناء فريق حقوقي من عشرات المحامين يتواجد بصورة لصيقة بالجسم القضائي، وتعمد إقامة مئات الدعاوى على كل من تجرأ ووصفه بالقاتل أو المجرم، وفقاً لتوصيف الحكم الصادر بحقه عن أعلى مرجع قضائي، وهو حكم لا يطاله قانون العفو الذي يلغي العقوبة وليس الحكم، ولا تمت عملية مراجعة الحكم بحكم جديد يصدر بعد إعادة محاكمة، لكن الذي جرى أن أغلبية كاسحة من الأحكام القضائية تم أخذها في جلسات شكلية تحيز فيها أغلب القضاة بعصبية عدائية لصالح جعجع لاحظها المدعى عليهم من تفاصيل حضورهم أمام القضاة، وطبيعة الأحكام، التي لم تكن أهميتها بمضمونها بقدر دورها في تطويع الجسم القضائي لتجنب تكرار وقوف قاض يتجرأ على إصدار حكم لا يرضي جعجع، وكأن القضاء يريد محو ذاكرته تجاه الحكم الصادر عن أعلى مراجعه، وهو ما لا يطاله قانون العفو، بل أراد القضاء التكفير عن تجرؤه على جعجع وكسب الرضا، طالما أن القضاء بموجب قانون العفو صار ممسحة لألاعيب السياسة والسياسيين، وفقدت أحكامه قيمتها القانونية وصار سهلاً اتهام كبار القضاة بزبائنية ومحسوبية وجبن وتبعية لمجرد أنهم تجرأوا من مواقعهم كأعضاء في المجلس العدلي الذي أصدر الحكم على جعجع، ويكفي تذكر الأسماء لنعرف حجم الجريمة التي لا زال القضاء يقع تحت أعبائها، قضاة من وزن فيليب خيرالله وحكمت هرموش وحسين الزين وأحمد المعلم ورالف رياشي وجورج قاصوف.
– تزامن ذلك خلال خمسة عشر سنة مع اهتمام أميركي استثنائي بالجسمين القضائي والأمني، على كل مستويات المسؤولية، بعلاقات مباشرة وتكوين ملفات، ودعوات وزيارات، ومنح دورات تدريبية، واشتغل الأميركيون على بناء منظومة صلبة في الجسم المتداخل بين الأمن والقضاء والهيئات الحقوقية، بينما كانت الأحزاب السياسية بما فيها المعنيون بالمقاومة تشتغل السياسة بطرقها التقليدية، وتتهاون بكل استهداف يطالها، فتحجم عن رفع الدعاوى بحق من يتناولها بالإساءة بداعي الترفع مرة وداعي الشعور بعدم الأهمية أو الشعور بالقوة مرات، فترك الجسم القضائي يخضع للضغط من جهة واحدة، وفي كل مرة تأتي التعيينات القضائية والأمنية، كان القضاة والضباط يتم ترشيحهم من مرجعيات طوائفهم، لكن الكثيرين كان ولاؤهم الداخلي لمرجعيتهم الطائفية، لكن تحت عباءتها يقيمون حساباً ومكانة لعلاقتهم بالأميركي الذي يملك قدرة الترغيب والترهيب، وكثيراً ما تتحول العلاقة معه إلى مصدر نفوذ لدى المرجعية الطائفية يتلقون عليها التهنئة، وفجأة عندما وقع انفجار المرفأ خرج كل شيء إلى العلن، بعد مؤشرات لم تنل حقها من العناية كقرار المحكمة العسكرية بحق العميل عامر فاخوري وآليات الاشتغال عليه بهدوء وتداخل الأمني والقضائي فيه، وبدا أن هناك منظومة قضائية أمنية تملك السفارة الأميركية القدرة على تحريكها، بينما يملك الآخرون شبكة علاقات عامة بلا نواة صلبة متماسكة تشبه ما يوازيها، رشح المحقق العدلي فادي صوان، وعندما تمت تنحيته رشح المحقق طارق بيطار، فمن رشحهما واحد، ونالا الأغلبية اللازمة ورضا المرجعية السياسية والطائفية والوزارية، وتفاجأ الجميع بالأداء، وظهرت حولهما منظومة إعلامية وحقوقية، تحيط بها تشكيلات من عشرات النشطاء في الشارع يملكون حصرية التحدث باسم أهالي ضحايا المرفأ، وليس معهم من أهل الضحايا أكثر من أهالي عشرة منهم ينتمون إلى خلفيات سياسية قواتية أو قريبة من القوات، بينما لم يقم أحد بتنظيم أهالي أكثر من مئتي شهيد وستة آلاف جريح وآلاف الذين خسروا بيوتهم ومؤسساتهم الموزعين على كل الطوائف والميول السياسية.
– جاءت مجزرة الطيونة، وبدأنا نشهد الفيلم الأميركي الطويل منذ زيارة فكتوريا نولاند وتغيير البيانات التي توصف الحدث من رشقات نارية استهدفت محتجين إلى إشكال تحول إلى اشتباك، وحفلت مؤسسات الإعلام الممسوك والقادر والفاعل شهادات لشهود العيان لتقول إن ما جرى كان إشكالاً تحول إلى اشتباك، فتذكرنا فجأة حكاية شهود العيان والحرب على سورية وقناتي الجزيرة والعربية، وكيف كشف لاحقاً عن موظفين لدى القناتين برتبة شهود عيان، وعن شهادات أدلي بها من غرفة قرب استديو الأخبار مع مؤثرات صوتية توحي أنها من الميدان، ولو سلمنا بالروايات التي رأينها وسنرى الكثير منها خلال الأيام القادمة، بأن جراد المحتجين كما قال شاهد عيان دخل شارعاً فرعياً وراح يعتدي على الأملاك، هكذا من دون سبب، وخرج من بين المحتجين مطلقو نار من مسدسات كما قال شاهد آخر، هل هناك من يخبرنا كيف مات الذين قتلوا، ولماذا كل القتلى والجرحى من فئة واحدة، هل ماتوا بصعقة كهربائية، أم أنهم أطلقوا النار فأخطأوا الهدف وربما أصابوا أنفسهم بالخطأ أو جاءهم من رد عليهم بالنار فأصاب الهدف، فهل يريدون إفهامنا كما قال سمير جعجع أن حزب الله أراد تنفيذ 7 أيار ففشل وكان الردع الأهلي العفوي له بالمرصاد، أم نصدق ما كتبه بعض مناصري القوات عن أنه وقت الثأر للقواتيين الذين سقطوا بتفجير المرفأ، فيصبح أفضل ما قد يكشفه التحقيق هو أن مجموعة من هؤلاء قامت، بدافع الغضب من تصريحات ومواقف حزب الله، بالتجمع والتحضير لمواجهة تظاهرة دعا لها الحزب ضد المحقق العدلي الذي يثقون أنه سينصف دماء ضحاياهم، وأن اشتباكاً حصل بين هؤلاء وبعض المشاركين في التظاهرة وانتهى إلى ما حصل قبل أن ينتقل الاشتباك إلى الأحياء المتقابلة، وأن قيادة القوات فوجئت كما الآخرين بما جرى.
– هل نتوقع أن يوجد قاض يجرؤ على توجيه الاتهام لسمير جعجع بعد ما جرى في المرة الأولى وما تلاها، وفي ظل رعاية أميركية مباشرة للملف القضائي والأمني، بأوراق قوة تؤثر في قضاة وضباط لهم حسابات مصرفية يهدد الأميركي بتجميدها، وعلى بعضهم ملفات يملك الأميركي قدرة الابتزاز بها، ويرغبون بسفرهم وتعلم أولادهم حيث يملك الأميركي حق الاستضافة بدورات تدريبية ومنح جامعية، وهناك دوائر منظمة حقوقياً وإعلامياً وجمعيات من النشطاء الجاهزين لدعمهم أو ابتزازهم بالتهديد، وهؤلاء النشطاء جاهزون للشهادة بأن اللبن أسود إذا اقتضى رضا الأميركي الذي يعدهم بمقاعد نيابية، أن يقولوا ذلك، والشيعة بينهم هم الأشد حماسة من أقرانهم لفعل ذلك، ولا يجوز إبداء الدهشة والاستغراب من أن ثمة قضاة مستعدون لتوجيه الاتهام لحزب الله فقوته لا تخيف أحداً، وعلى رغم كل الاتهامات بالاغتيالات يعرف الجميع أن حزب الله لا يقتل بل يعرف كيف يقاتل، بينما يخشون سواه كثيراً، سواء كان سواه داخلياً أم خارجياً، فهذا ما تقوله الوقائع عما قد يفعله هؤلاء.
– يجب أن ينتبه المعنيون في المقاومة وحلفائها وخصوصاً التيار الوطني الحر أن تنصيب سمير جعجع زعيماً للمسيحيين من بوابة دماء الطيونة، يهدد المقاومة سواء حزب الله وحركة أمل بما هو آت، لكنه ينهي فرص التيار بالحضور السياسي اليوم، فتزعم القوات يمر على جثة التيار وسواه، وليس لدى التيار ترف التلذذ بالشماتة بأمل، وتهديد حزب الله وأمل يمر حكماً بتحجيم التيار ومحاصرته، وأن لا بديل من مواجهة هذا التحدي الذي فرضه الأميركي على الجميع بمن فيهم تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوى المسيحية الوطنية وفي طليعتها تيار المردة والقوى غير الطائفية وفي طليعتها الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث لا أحد لديه ترف التلذذ بالشماتة بإضعاف التيار الوطني الحر بسبب تاريخ المعاناة من التفرد، فالإضعاف سيتم لحساب تغول جعجع، وأن ذلك يستحق مراجعة جذرية من الجميع، موقع تذكر ويلات الحرب الأهلية وما يعنيه خطر إعادة ماكينة الحرب الأهلية إلى الحياة مجدداً، فالجميع سيقول لاحقاً أكلنا جميعاً يوم أكل الثور الأبيض، ولا أحد يعلم اليوم من هو الثور الأبيض فكلهم مرشح لهذا الدور.