هل دموية «الطيونة» جرس إنذار لما يُخطط له؟
} علي بدر الدين
يبدو أنّ مسار الأحداث والتطورات التي تشهدها الساحة السياسية والطائفية في لبنان، معطوفة على المخاضات العسيرة والمعقدة في المنطقة والإقليم والعالم، وما يتخللها من مصالحات حذرة، ومصالح متقاطعة أو متعارضة بهدف رسم خرائط جيوسياسية جديدة وتقاسم النفوذ والسيطرة، مؤشرات لمرحلة استثنائية من تفاقم الأزمات والمشكلات والصراعات واشتعال الحرائق، في غير منطقة ومحور وعلى اكثر من جبهة، وفي ملفات منها القديم ومنها المستجدّ، وصولاً إلى حافة الفتنة التي طلت برأسها، وقد تتدحرج كرة نارها الى أبعد من مكانها وزمانها وتؤدي إلى الانفجار الكبير، الذي وفق المعطيات ليس في وارد الوقوع حالياً، لأنّ بعض المعنيين والحريصين على البلد في الداخل والخارج، لا يرغبون الدخول في أتونه ولا الانجرار إلى مصيدة وفخاخ الساعين اليه أياً كانوا.
المرحلة تقتضي الترقب والحذر وانتظار ما ستؤول إليه المساعي والاتصالات، لإعادة مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، ومواصلة الاجتماعات السعودية الإيرانية التي على ما يبدو، قطعت شوطاً ربما يمكن التعويل عليها، وإنْ كانت شاقة وصعبة في ظلّ الحديث عن فتح أسواق البلدين، في حال لم يطرأ «الشديد القوي» الذي ينسفها ويطيح بما كان معلقاً عليها من «آمال» متواضعة، ولو من باب الرغبة والتمني.
ما يحصل على الساحة السياسية الطائفية والشوارعية في لبنان من كباش عالي الصوت والفعل والميدان، هو ليس آنياً أو وليد ساعته، بل نتيجة لتفاقم الصراع الدائر منذ زمن، ولأنّ مواجهته وعلاجه كانت بالمسكّنات او التجميد والترحيل بعناوين الحفاظ على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي المهزوز أساساً، الذي لم يعد ناجعاً او مفيداً او حلا، لا سيما وقد «بلغ السيل الزبى»، واستمرار السكوت عليه بالترقيع او «بتبويس اللحى»، يعني بكلّ بساطة جرّ البلاد والعباد إلى ما لا يُحمد عقباه، والوقوع بالمحظور الذي حاول البعض الهروب من ناره وخطره الذي بات للأسف أمراً واقعاً، استجابة للتدخلات الخارجية مباشرة أو وكالة أو بالواسطة، لتنفيذ «اجندات» ومشاريع تمرّر تحت جنح ظلام ليل المفاوضات والمصالحات والتسويات، التي لا تزال غامضة ومبهمة ومجهولة النتائج والمصير، وهي في الواقع ليست في مصلحة وحدة لبنان ثوابته، وقد تفتح ساحته وتشرع أبوابه لرياح الخارج، ليعبث بكلّ شيء ويحقق ما يبتغيه ويسعى إليه، من وضع اليد والسيطرة وقضم الحقوق في أكثر من ملف وقضية وحق للبنان وشعبه، باستهدافات مباشرة أو غير مباشرة، وبالتالي لا يمكن عزل أو فصل ما حدث واستجدّ، عما يحدث في المنطقة وعليها. على أمل ألا يكون بمثابة «بروفا» لما قد يأتي، ليعيد اللبنانيين الى زمن الحرب الأهلية، والمحاور والقتل والدمار والتهجير، وينبئ بالشر المستطير والخطير،
ما «يطمئن»، انّ الجيش سيكون بالمرصاد للذين يسعون إلى الفتنة والتصعيد، ومعه كلّ الحرصاء على الأمن والاستقرار وعدم الغرق من جديد في بحر الدم.
ويبدو أنّ مسار التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت (معه أو ضده) شكل شرارة هذا «الانفجار»، ولأنّ القصة ليست «حبة رمانة بل قلوب مليانة» وتراكمات مزمنة، فرضت نفسها بقوة، وفي حال ترك «الحبل على غاربه»، فهذا يعني المزيد من الانزلاق نحو الأسوأ والأخطر، وبات لزاماً على الجميع كبح جماحها وفرملتها، بأقلّ الخسائر الممكنة، قبل استفحالها وانعدام القدرة على وضع حدّ لها، حتى لا يصل لبنان الى خط نهايته، وهو في الأصل على حافته، وخطوة إضافية غير محسوبة يسقط في المجهول المدمّر والقاتل.
ما يمرّ فيه هذا البلد من أحداث وصراعات وضغوط خارجية ومواقف سياسية وطائفية عالية السقوف، لا يمكن التعامل معها ومع ما حصل في الطيونة وكأنه مجرد إشكال أمني عادي لا مفاعيل آنية ومستقبلية له، بل يستدعي وعياً وحكمة وحذراً شديداً، خاصة أنّ الجميع يدرك أنّ أخطارها قد تكون كبيرة وكثيرة، ولا يحق لأحد ولا يسمح له وليس باستطاعته أن يغامر بأرواح الناس، وبمصير وطن يتهاوى، وبشعب فقير وجائع ومعدم يتلظى من حرائق القوى السياسية والمالية السلطوية الحاكمة منذ ثلاثة عقود، وهي المسؤولة أولاً وأخيراً عن كلّ ما حلّ به، وعليها أن تطفئ النار المشتعلة وتحول دون التصعيد الأمني والعسكري، حتى لا «يفلت الملق»، خاصة انّ هناك ما يؤشر إلى أنّ المساعي جارية للبحث عن تسوية أو مخرج ينهي مفاعيل ما حصل ويحصل، على ضوء ما يكشفه التحقيق ووضع النقاط على الحروف، واتخاذ المقتضى القانوني للمحاكمة ومحاسبة المسؤول عن هدر دماء الأبرياء، والبحث في مسار التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، وفي وقضايا خلافية أخرى، وليس في ابتداع الحلول والمخارج التي تخدم السلطة ومنظومتها ومكوناتها، وتدفيع أثمانها للشعب وانتظار ما ستؤول إليه المفاوضات والمصالحات والتسويات الاقليمية والدولية، لأنه عليها، سيبنى على الشيء المقتضى، ومن الخطأ استمرار التلطي خلف أصابع الوهم، والفصل بين العاملين الدولي والمحلي.
بات من المؤكد، أنه بعد الذي حصل من أحداث دامية في الطيونة في الرابع عشر من الشهر الحالي، لن يكون كما كان قبلها، لأنّ وقائع المشهد العام سياسياً وقضائياً وأمنياً وطائفياً، انقلبت رأساً على عقب، حيث تبدّلت المطالب والشروط المتبادلة، وارتفع منسوبها التصعيدي، ولم يعد لدى بعض القوى السياسية مقبولاً ما كان «متفقاً» عليه مسايرة أو مناورة او لتقطيع الوقت، خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأحداث الطيونة، إنْ لجهة التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت أو ما استجدّ من تحقيقات في أحداث ١٤ تشرين الأول، لأنّ هناك أرواحاً زهقت، ودماء سالت، وجرحى يعانون ويئنون في المستشفيات، أو لجهة عدم التفريط بالحكومة، التي تقتضي الظروف الصعبة والضرورات الوطنية والاقتصادية والمالية والمعيشية والخدماتية، التسريع بمعاودة جلساتها، خاصة أنها ولدت بعد مخاضات عسيرة، وكما يقول المثل الشعبي، «مشينا لحفينا وبكينا لعمينا» من أجل أن تبصر النور.
الثابت الوحيد في ما حصل وتداعياته، هو تفاقم الأزمات والمشكلات المعيشية والأوضاع الاقتصادية والمالية، وتفلت الأسعار وتحكم «المافيات» وتجار الجشع والطمع والاحتكار بكلّ سلعة أو خدمة، وتمدّد السوق السوداء التي تزيد من معاناة الشعب وتعميق فقره وجوعه وبطالته وقد طالت حتى رغيف خبزه، الذي قد يحرم منه في الآتي من الأيام لارتفاع سعره، ناهيك عن مواصلة تحليق سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، التي باتت بلا قيمة ولا قوة شرائية لها، وهذا واضح وصريح في تصاعد أسعار السلع الضرورية والوقود على أنواعها، والأدوية إذا ما وجدت، وقد تحوّل الشعب الفقير والمعدم والعاطل من العمل، إلى ما يشبه «جثة هامدة»، وجسداً من دون روح، ورأساً من دون تفكير او تدبير، والكلّ «ينهش في لحمه الميت». بفضل السلطة السياسية والمالية الحاكمة، التي أردته بعد أن سلبته حقوقه ودجّنته و»زلّطته» وسلخت جلده، ولم تشبع ولم ترتو من دمه الذي يسيل على الطرقات، ولا يزال عرضة للجلد والضرب فوق الحزام وتحته، حتى يلفظ ما تبقى له من أمل أو حياة أو نفس وتكون المقابر مأواه الأخير.
الأنكى أن تراكم الأزمات والصراعات والمعارك التي لا تنتهي، بين مكونات الطبقة السياسية والمالية، وفي إفقارها لهذا الشعب وتجويعه، ودورها في انهيار دولة ومؤسّسات، وضياع وطن ومصير، وفي تضييع دماء أبرياء سقطوا ماضياً وحاضراً، وقد يكون الآتي أعظم وأخطر وأكثر دموية ودمار وتشريد وتهجير، إنّ قوى سياسية وإعلاماً مرتزقاً ومشبوهاً، يتخذ من دماء الأبرياء، منصة لتسويق أجنداته باللجوء إلى منطق الخسارة والربح «الشعبي» لبعض القوى السياسية، ومن نجح باستنهاض بيئاته الحاضنة ورفع من شعبيته، كرصيد جديد يوظف في الانتخابات النيابية، حيث بدأ عداد احتساب الأصوات وأعداد نواب هذه الكتلة او تلك، لأنّ هذا الفريق أو ذاك تفوّق في تحريك عصبية وغرائزية جماعته و»منطقته»، وكأنها ملكية حصرية له ورثها من أسلافه وجده وأبيه، ولا قيمة عنده لأرواح الشباب التي أزهقت ولا دماء الجرحى، ولا لما يتعرّض له الناس من خوف ورعب، كلّ همّه التوظيف في انتخابات نيابية قد لا تحصل أو يُراد لها ذلك، إذا ما استمرّت القوى السياسية او بعضها في انتهاج سياسات التجويع وافتعال الإشكالات الأمنية في ايّ منطقة أو شارع في هذا البلد المنكوب والمبتلي بطبقته السياسية منذ عقود، في محاولات يائسة لاستثمارها في الانتخابات وغيرها، من أجندات ومشاريع مشبوهة داخلياً وخارجياً.
أيها السياسيون، أيها الحاكمون، كفاكم تسلطاً ونهباً وفساداً، ألم تشبعوا بعد، ألم تخجلوا من أنفسكم، ألا يكفيكم ما أنتم فيه من ثراء فاحش ومن عروش السلطة وأبراجها، ومن نفوذ واستبداد وظلم. كفوا شروركم وخطركم عن هذا الشعب المسكين والمقهور والمعذب والجائع والمغرر به والذي يشعر بالغربة عن وطنه بقرار منكم، خدمة لمصالحكم ولمشغليكم، واتركوا الساحة لغيركم، علّ وعسى تتحسّن الأحوال، وتعود الروح والحياة للوطن والدولة والمؤسسات والشعب، وقد حرمتموه حتى من النزول إلى الشارع للتعبير عن رأيه ورفع صوته باحثاً عن حقه مطالباً باسترداده، وأنتم الذين سلبتموه منه بقوة السلطة والنفوذ والمصالح الخاصة، وهذا الشعب، لا حول له ولا قوة ولا عمل ولا إرادة، وهو يدرك جيداً أنكم لن تستيجبوا لاستغاثته، ولن تعيدوا له أدنى مقوّمات حياته ومعيشته، ولن تتزحزحوا حتى بمقدار أنملة عن سلطتكم ومواقعكم ومكاسبكم وظلمكم، لأنكم ادخلتموه «العناية» غير الفائقة غصباً عنه وهو منذ تسلطكم في حكم المغشى عليه، والمهيض الجناح والمستسلم لما تقرّرونه لكم، ومجرد دمى تحركونها، وتعرفون مكامن النقص عنده، وكيف ومتى تنقرون على وتر غرائزه وعصبياته، وتخويفه من الآخر، الذي هو شريككم في الوطن، وفق الأنظمة والقوانين والأعراف والصيغ، تحت عناوين ومصطلحات كاذبة، تسمّى زوراً العيش المشترك والتعايش وصيغة لبنان الفريدة من نوعها، حيث يكمن فيها الخطر الحقيقي عليه وعلى المواطنية السليمة، وعلى بناء الدولة القادرة العادلة والمؤسساتية، التي لا يعدو كونها مجرد حلم بعيد عن الواقع والمنال. أيها السياسون الحاكمون، اسمعوا نداء شعبكم الأخير وارحموا من في الأرض، ربما يرحمكم من في السماء ولن يرحمكم، لأنكم سفلة وقتلة ومجرمون، ومن كان منكم «بلا خطيئة فليرجمها بحجر» ومن كان منكم خارج دائرة الاتهام، فليرفع صوت الحق والصدق والحقيقة، وينسحب من السلطة ويسمّي الأشياء بأسمائها ويكشف المستور، ويعلن التوبة الكبرى أمام الله والشعب ويبرّئ ذمته قبل فوات الأوان، لأنّ حكم الله والشعب سيكون كبيراً ومدوياً وإنْ طال الزمن أم قصر.