حذار الأوهام في الشأن «الإسرائيليّ»
جورج كعدي
رأيان على طرفي نقيض برزا في الأيام الأخيرة حول الموقف الذي ينبغي أن يعتمده «فلسطينيّو 48» في الانتخابات «الإسرائيليّة» المقبلة، الأول ينادي بالمقاطعة الشاملة لإيمانه بلا جدوى الانخراط في الحياة السياسيّة داخل الكيان الغاصب المحتلّ وانعدام القدرة على «التغيير» من داخل المؤسّسات «الإسرئيليّة»، و«الكنيست» في مقدّمها. فيما يدعو الرأي الثاني المعاكس إلى تأييد «القائمة العربيّة المشتركة» التي أنتجها موقف فلسطينيّ موحّد من السلطة وحماس وأطراف أخرى على أمل أن يبدّل فوز هذه القائمة شيئاً في التوازنات السياسيّة داخل الكيان الصهيونيّ ويساهم في تعزيز خطّ «دعاة السلام» في هذا الكيان، مثل «حركة السلام الآن» التي تضمّ بعض اليهود غير المتطرّفين لو وُجد مثلهم حقّاً وبعض الأكاديميّين والمثقّفين و«المؤرّخين الجدد» الذين لعلّهم يؤمنون بنسب متفاوتة بدولة «إسرائيليّة» غير يهوديّة، ديمقراطيّة، تحتضن جميع مواطنيها، فلسطينيّين ويهوداً، أو بحلّ الدولتين المتعايشتين في سلام، إلى ما هنالك من حلول خرافيّة، غير واقعيّة، موجودة في رؤوس الواهمين فحسب.
سؤال بديهيّ يطرح نفسه بدءاً: ألم تلقّن التجربة المديدة والمريرة مع الصهيونيّ المحتلّ جميع الأطراف المعنيّة بالصراع، فلسطينيّة وغيرها، أن لا التفاوض بجولاته التي لا تحصى وأشكاله التي لا تعدّ أوصل إلى أيّ نتيجة، ولا تقديم التنازلات التي تجاوزت حدود المقبول والمعقول، ولا المهادنات أو الاتفاقيّات الأمنيّة، ولا حتّى «التنسيق» الأمنيّ مع المحتلّ! سابقة لا مثيل لها في تاريخ الشعوب المناضلة لحرّيتها واستعادة حقوقها الكاملة! ، ولا أيضاً «حسن النوايا» وتقديم مبادرات السلام الاستسلام غالباً ومخاطبة الرأي العام «الإسرائيليّ» بعبارات الودّ والطمأنة والانفتاح… لا شيء من ذلك كله، على امتداد سبعة وستّين عاماً من نشأة الكيان المسخ، أوصل إلى أدنى نتيجة إيجابيّة عمليّة، بما في ذلك اتفاقيّة أوسلو المهزلة التي فرّطت بثلاثة أرباع الأرض والحقوق والحرّية والاستقلال، ومع ذلك لم تُطبّق ولم تَخْرج يوماً إلى حيّز التنفيذ والتطبيق! ألا يلقّننا هذا التاريخ المأسويّ من التهجير والاحتلال والاستيطان والقتل والمجازر والاغتيالات والاعتقالات والقمع والإذلال، الذي ملأه «الإسرائيليّ» القاتل المسعور بالدم والدموع، درساً بليغاً ويقينيّاً مفاده أن لا إمكان البتّة للعيش مع هذه العصابات الوافدة من أنحاء الأرض وأقاصيها، ولا مجال للتعايش وتقاسم الأرض وإيّاها لأنّها لا تملك تاريخيّاً وحضاريّاً وقوميّاً ذرّة حقّ فيها وينبغي طردها بأيّ طريقة وأيّ ثمن وتطهير الأرض المقدّسة من دَنَس احتلالها؟! ألم نعِ جميعاً بعد أنّ السبيل الوحيد للتعامل مع هذا اليهوديّ الصهيونيّ المحتلّ هو سبيل المقاومة والنضال، حتّى تحرير آخر حبّة تراب من أرض فلسطين السوريّة الغالية والمفدّاة؟!
غريبٌ أمر المراهنين، بعد هذا التاريخ الطويل من المآسي والآلام، على إمكان تغيير شيء في مجتمع «إسرائيليّ» مريض، مكوّن من أفراد تجمعهم آصرة الدين وعقدة الاضطهاد التاريخيّ وعُظام ميغالومانيّة التفوّق وخرافة «شعب الله المختار»، وفي ذلك آفات ثلاث بيّنات، أوّلاً تغليب الانتماء الدينيّ المبنيّ على خرافة عمرها ألوف السنين على الانتماء الإنسانيّ، فاليهوديّ عامّة والصهيونيّ بخاصّة يفكّر في ذاته يهوديّاً أكثر منه إنساناً يتقاسم القيمة الإنسانيّة والقيم البشريّة العامّة مع أفراد آخرين من غير دينه وملّته. ثانياً عقدة الاضطهاد التاريخيّ التي تحمّل الآخرين دوماً المسؤوليّة وعقدة الذنب ويبلغ الأمر حدّ الابتزاز وإطلاق التهمة الجاهزة بـ«معاداة الساميّة»، من غير الاعتراف بالوجه الآخر لهذه «المسألة اليهوديّة» التي تتبرّأ من مسؤوليّتها التاريخيّة هي نفسها عن استفزاز الشعوب والمجتمعات التي عاشت فيها ضمن غيتوات تؤكد شخصيّة الانعزال والانطواء والتكتّل والاحتماء والانكفاء وعدم انخراط اليهوديّ المذعور والمضطرب والخائف والجدير بأن تعمل علوم النفس والاجتماع والتاريخ ليل نهار على تحليل شخصيّته وكشف أمراضها واضطراباتها الكثيرة . ثالثاً تلك النزعة «العُظاميّة» المرضيّة أيضاً المعروفة عن الهيوديّ عامّة، في مختلف المجتمعات، وعن «الإسرائيليّ!» بخاصة الذي ما انفكّ مذ دنّس أرض فلسطين الكنعانيّة يعتمد خطاباً عنجهيّاً عنصريّاً متعالياً إزاء الشعب الفلسطينيّ والأمّة السوريّة جمعاء، مقتنعاً تبعاً لشخصيّته السقيمة إيّاها بأنّه من طينة إلهيّة، وبأنّ الآخرين، جميع الآخرين، هم من طينة البهائم التي ينبغي سوقها إلى الذبح، أو من «الحشرات» بحسب وصف الممثّل اليهوديّ الصهيونيّ الحقير جون مالكوفيتش!
لكون الشخصيّة اليهوديّة عامّة، والصهيونيّة خاصّة، شخصيّة مريضة بامتياز، ميؤوسة الشفاء، فإنّ لا جدوى بالتالي من الانجرار إلى لعبتها، وإن بذريعة «التغيير» من داخل المجتمع «الإسرائيليّ»، إذ لا أمل يرجى من معالجة هذا الوضع وإنهاء الصراع التاريخيّ القاسي والمأسويّ إلاّ بنسف هذا الكيان من أساسه، عبر وحدة الموقف والنضال والتصدّي والمقاومة ووضع الخطط الاستراتيجيّة المشتركة بين سائر القوى والدول المتصدّية في المنطقة، وفي طليعتها اليوم إيران، لاقتلاع السرطان «الإسرائيليّ»، وهذا الهدف ينتمي إلى الواقع في إيمان المؤمنين والشجعان، وإلى الحلم لدى فاقدي الإيمان والشجاعة والوطنيّة والكرامة، من أتباع أميركا والغرب، غير الرافضين لوجود «إسرائيل» كياناً محتلاًّ يريد حكم المنطقة وإذلال أهلها.
بقي الـ«نتن يـاهو» أو ذهب، رحل أو أتى سواه، فإنّ جميع قادة «إسرائيـل» تفوح منهم رائحة النتن، ولا حاجة بنـا إلى البناء على الأوهام في الشأن «الإسرائيليّ» برمّته.