هل بدأت أميركا تتحسّس مأزقها في العراق؟
العميد د. أمين محمد حطيط
في تصريح قد يكون مفاجئاً، صعق الجنرال ديمبسي رئيس أركان الجيوش الأميركية متابعيه بإعلانه أن تكثيف الضربات الجوية من التحالف ضد «داعش» يشكل خطأ استراتيجياً كبيراً، لأنه تصريح يستوجب سؤال ديمبسي ماذا تفعلون إذن في العراق ولماذا أنشأتم التحالف الدولي ضد «داعش»؟ هل كان التحالف لحمايتها أم لمداعبتها وخداع العراق ودفعه إلى الاستسلام لقدره أمامها لتنفذ ما جاءت من أجله بتكليف أميركي.
كنا وما زلنا نقول بأن أميركا اتخذت من داعش جسر عبور وأداة لتحقق أكثر من هدف في المنطقة خدمة للمشروع الصهيوأميركي ولم تكن أميركا ولن تكون يوماً عدواً لـ«داعش» ومع هذا ادعت عند إنشاء التحالف بأن هدف عملياتها في العراق الفتك بـ«داعش» وهو أمر كذبته كل الوقائع والعمليات العسكرية الأميركية التي قادت الطائرات الأميركية إلى إلقاء المساعدات لـ«داعش» بدءاً من معركة جرف الصخر وحتى اليوم ، أما في سورية فإن عملياتها اتجهت لضبط «داعش» من دون أن يؤدي ذلك إلى المس بقدراتها.
مع هذه الحقائق ينبغي ألّا نفاجأ بالموقف الأميركي لكن وجه الصدمة في الموقف هو إعلانه الصريح والدعوة إلى تخفيف الضغط على «داعش»، دعوة ترافقت مع انتقادات قاسية وجهت من أميركا وجهات تدور في فلكها إلى الحشد الشعبي الذي يعتبر أحد جناحي القوة التي واجهت «داعش» فما السبب؟
برأينا أن ما تحقق من الإنجازات الميدانية في العراق أذهل أميركا وجعلها تسقط كل الأقنعة عن دورها في رعاية «داعش»، لأن هذه الإنجازات إذا جمعت إلى ما حققته سورية أيضاً فإنها تخرج صورة تقطع بأن المشروع الأميركي في المنطقة لن يقوى بعد الآن على القيام.
وفضلاً عن الإنجازات العسكرية الميدانية فقد أظهرت القوات العسكرية العراقية من جيش وحشد شعبي هوية وطنية لا طائفية وهذا ما لا تستسيغه أميركا بسهولة. وهنا نذكر بأن العراق قبل عام 2003 كان يعيش جواً أو حالة شعبية وطنية غير طائفية، ولم يكن هناك تنازع بين سنة وشيعة أو بين مسلمين وغير مسلمين، بخاصة على صعيد العيش المشترك شعبياً بصرف النظر عن ممارسة الحكام بصيغة أو أخرى وبدخول أميركا محتلة للعراق دخل تنظيم «القاعدة» الإرهابي ربيبها فعاث في العراق تدميراً وإفساداً لتلك الحالة الوطنية ونشر الحسّ المذهبي.
وعندما سهّلت أميركا لـ«داعش» في شكل مباشر أو غير مباشر عملية السيطرة شبه الكاملة على المحافظات الأربع ذات الأكثرية الديمغرافية التي تعتنق الإسلام على مذاهب أهل السنة، تصورت أن إقليماً سنياً متطرفاً سيقوم بمواجهة إقليم شيعي وسيكون القتال هو اللغة التي تعتمد بين الإقليمين بما يستنزف قدراتهما ويؤدي إلى تقسيم العراق والانطلاق بعده إلى تقسيم سورية بعد أن تكون قد فصلتها بالإقليم السني عن حليفتها الاستراتيجية إيران.
لكن الذي حصل وعلى رغم كل المناورات الخداعية الأميركية والتضييق على الجيش العراقي ومنع تسليمه ما يحتاج من أسلحة وذخائر ليواجه بها «داعش»، هو أن العراق اعتمد على نفسه أولاً وعلى مساعدة الجوار الإقليمي وبصورة خاصة من محور المقاومة وفي مقدمه إيران، واستند إلى توجيه ودعم معنوي مميز قدمته المرجعية الدينية، استند إلى كل ذلك وخاض معركة دفاع وتطهير ناجحة ظنت أميركا في البدء أنها لن تصل إلى تحقيق شيء مما يبتغيه العراقيون منها في ظل الضغط النفسي والحصار اللوجيستي والخداع العملاني الذي مورس عليهم.
لكن الميدان كذّب التوقع الأميركي، إذ أدت الحرب الدفاعية العراقية وفي أقل من أربعة أشهر إلى تحقيق إنجازات مهمة جاءت كلها لتنقض ما حاكته أميركا للعراق إذ أنها:
أظهرت أن العراق قادر بما حشد من قوة مثلثة رسمية وشعبية وتحالفية على القيام بالتحرير من غير التوقف عند القرار الأميركي.
أثبت الحشد الشعبي الذي شكل على عجل لمساندة الجيش العراقي في وجه «داعش»، أنه قوى وطنية حقيقية تعمل من أجل العراق الوطن، لا قوى طائفية مذهبية تعمل من أجل مذهب على حساب الوطن. وهنا انقلبت معركة التحرير وبمشاركة الحشد الشعبي إلى معركة مزدوجة معركة ضد الإرهاب ومعركة ضد الطائفية في الآن ذاته، وهذا ما يناقض الأهداف والرغبات الأميركية التي تتكئ على الأمرين للإمساك بالعراق. وكانت مواقف شيوخ العشائر السنية من الحشد دعماً وتأييداً ومن «داعش» وداعميه رفضاً واستعداداً لقتالهم، علامة فارقة تؤكد وطنية الحرب ضد الإرهاب وتسقط أي وصف مزوّر ينعتها بالمذهبية.
إن نجاح العراق في معركة التحرير من الإرهاب والطائفية سيؤدي من دون أدنى شك إلى إسقاط مشروع تقسيم العراق، كما ويقضي على حالة عدم الاستقرار التي تريدها أميركا من أجل استنزاف العراق ومنع عودتها لتحتل موقعها في خريطة الفاعلين في المنطقة.
إن السير على طريق التطهير والتحرير في العراق وبالطريقة المتناغمة مع ما يحصل في سورية وبدعم إيراني واضح، يجعل العراق متجهاً لاحتلال الموقع الإقليمي الذي تفرضه جغرافيته السياسية، أي على خريطة محور المقاومة عضوية أو تحالفاً أو تنسيقاً عميقاً، وهذا يغضب أميركا وحلفاءها الخليجيين، وتكون كل المناورات والحروب الإعلامية التي شنت من أجل منع العراق من الاقتراب من إيران، فشلت كما فشل المشروع بذاته.
وأخيراً نرى أن أميركا فتحت معركة العراق لتضغط عبره على سورية، وجاء رد فعل العراق الوطني ليعاكس الرغبات الأميركية، وبات العراق في إنجازاته التي أربكت أميركا وحلفاءها عاملاً داعماً لسورية في حربها على الإرهاب خلافاً للإرادة الأميركية.
لقد حقق العراق الكثير حتى الآن مما لا يرضي أميركا لا بل يناقض خطتها فيه، فقد شاءت أميركا نشر طائفية مدمرة، فلم يستجب لها كما تريد، وشاءت العراق برزخاً فاصلاً بين مكونات محور المقاومة فانقلب العراق إلى حلقة مكملة لسلسلة الحرب على الإرهاب تنتظم فيها إيران وسورية وحزب الله في لبنان، لذلك جاء الموقف الأميركي الداعي للتمهل في حرب «داعش» والتحذير من تكثيف الضربات الجوية ضده والتحذير من الحشد الشعبي الذي رفد قوة الدفاع والتحرير.
ومع هذا تبقى هناك محظورات ينبغي تجنبها لأنها ستفسد إن وقعت عظيم الإنجازات الوطنية العراقية، خصوصاً أن اليد الأجنبية ستسعى جاهدة لدفع العراق إليها. فالعراقيون مدعوون لتجنب أي منزلق طائفي أو مذهبي يفسد الوجه الوطني لحرب التحرير، وعليهم تجنّب سياسة اللامبالاة بحرب التحرير وعليهم المساهمة الجماعية فيها دفاعاً عن وحدة العراق، مع تجنب المواقف المرتهنة أو المستفزة لهذه الدولة أو تلك بل مصادقة من يساعد بصدق وتجنب الاتكال على المتآمرين على العراق.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية