أولى

وعد بلفور وسايكس بيكو: بداية التفكك

تكشف الوثائق الدبلوماسية التي يعود تاريخها إلى مطلع القرن الماضي حجم الترابط بين اتفاقية سايكس بيكو التي قسم بموجبها الفرنسيون والبريطانيون المنطقة إلى مجموعة كيانات، قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، وبين وعد بلفور الذي كان نقطة الانطلاق لقيام كيان الاحتلال وتمكينه من اغتصاب فلسطين، وتكشف مراحل الصراع المختلفة منذ بدء الهجرة الصهيوينة إلى فلسطين إلى يومنا هذا أن كل ترجمة جدية لمفهوم المواجهة مع كيان الاحتلال كانت تستدعي قفزاً فوق حدود سايكس بيكو، سواء في انتفاضة عام 1936 التي قادها السوري عز الدين القسام في فلسطين، أو في مرحلة جيش الإنقاذ عام 48 وصولاً للتعاون السوري- المصري في حرب عام 73، وانتهاء بزمن المقاومة التي استندت في لبنان وفلسطين إلى دعم سورية، أو في تحول المقاومة إلى محور عابر للحدود، وتقول الوقائع إنه كلما كان الحديث عن التقيد بالحدود كأولوية وطنية للكيانات الناشئة كانت الدعوة للتأقلم مع نتائج وعد بلفور هي الهدف الضمني، وهذا هو مغزى التفوق الذي تمتعت به الرؤية الاستشرافية لقادة مشاريع النهضة في بلادنا التي ربطت مواجهتها مع المشروعين، بمشروع يرفض خطط سايكس بيكو وبلفور معاً، وفي طليعة أصحاب هذه الرؤى كان صاحب العقيدة القومية الاجتماعية ومؤسس حزبها الزعيم أنطون سعادة.

المسار الذي سلكته المواجهة مع كيان الاحتلال خلال قرن ونيف قدمت خلال عقودها الأخيرة صورة عن وعي استراتيجي لدى قوى المقاومة، تبلور معه اهتزاز في قدرة حدود سايكس بيكو على الصمود، ولذلك شهدنا حروباً على الإمساك بالحدود التي تؤكد تقطيع أوصال الترابط بين الكيانات التي نشأت عن تقسيمات سايكس بيكو، فليست مصادفة تلك المكانة التي احتلتها حدود سورية مع لبنان والأردن وتركيا والعراق، في خطة الحرب لإسقاطها، ويحضر حجم الاهتمام الأميركي بالحدود دليلاً جازماً على هذا الترابط، كما يظهر حضور تنظيم داعش ككيان يعيش على الحدود الأهمية العميقة لتثبيت الحدود في مشروع المواجهة مع المقاومة، بمثل أهمية ترابط المواجهة مع الكيان بتكامل المقدرات عبر الحدود لنهوض هذه المقاومة.

العبرة التي تقدمها السنوات الفائضة عن المئة لخطط بلفور وسايكس بيكو، هي أن الأجيال التي تسلم راية المواجهة بعضها لبعض تزداد تجذراً من جيل إلى جيل، والمقارنة البسيطة بين الحال قبل عقود واليوم، يسهل تبيان الانتقال من التعامل مع الكيان الغاصب ومع حدود سايكس بيكو كحقيقة نهائية، إلى تحول النقاش حول فرص زوال الكيان إلى قضية مطروحة جدياً على الطاولة، ومثلها البحث عن أحلاف إقليمية يفرضها السعي لتحقيق المصالح الاقتصادية والأمنية، كمثل نشوء ما سمي بالشام الجديد بين الأردن والعراق ومصر، وما اكتشفه الأميركيون عندما قرروا الدخول في المنافسة مع المقاومة رداً على سفن كسر الحصار، من أن الشكل الوحيد المتاح لتخفيف وطأة الأزمة على لبنان يمر عبر سورية.

ليس من المبالغة القول إننا دخلنا مرحلة جديدة عنوانها بداية تفكك نتاج خطط بلفور وسايكس بيكو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى