عروبة قطع العلاقات…
معن بشور*
لم يعرف العروبيون الصادقون العروبة يوماً إلاّ هوية تنطوي على مشروع للوحدة والتحرّر والنهوض والتقدّم والتكامل مع الإسلام والانفتاح على الإنسانية، ولم يعرفوا ذلك المشروع إلاّ كدعوة لتحقيق أمرين رئيسيين:
أولهما استقلال الأمّة بأقطارها جميعاً، لا سيّما فلسطين، من الاستعمار بكافة أشكاله وفي المقدمة الاستعمار الصهيوني الإحلالي.
وثانيهما وحدة الأمّة على طريق صون أمنها القومي وتكامل اقتصادها وتحقيق تنميتها المستقلة وتجددها الحضاري وبناء نظامها الاتحادي الديمقراطي، وتعزيز علاقتها بدول الجوار الحضاري على قاعدة التكامل والتكافؤ والنديّة وعدم التدخل في شؤون الآخر الداخلية.
وفي أطار هذا المشروع حرص العروبيون الصادقون، من مشارب وانتماءات فكرية متعددة، على التمييز دوماً بين أنظمة لها ارتباطاتها وحساباتها، وبين شعوب لها مطامحها ومطالبها المشروعة، مدركين أنّ صراعات الحكام لا يجب أن تتحوّل إلى صراع بين الشعوب أو معها.
لذلك رفض العروبيون الصادقون أسلوب قطع العلاقات الدبلوماسية بين أقطار الأمة الذي تمتّ ممارسته مرات عدة، وبغضّ النظر عن الأسباب، ورأوا دائماً في قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، وما يرافقه من منع السفر إلى هذا البلد أو ذاك، مقدمة لمخاطر تهدّد هذا البلد في أمنه واستقراره ووحدته.
فلقد رفض العروبيون الصادقون قطع العلاقات الدبلوماسية بين بعض الأنظمة العربية والعراق منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد غزو العراق للكويت عام 1990، وعلى رغم خروج الجيش العراقي في ربيع 1991 من الكويت بقيت العلاقات مقطوعة مع بغداد والحصار مفروض على شعب العراق حتى الحرب الأميركية العالمية (2003) التي أدّت إلى احتلال هذا القطر العربي الهام وتداعياتها المستمّرة حتى اليوم .
والأمر نفسه يتكرّر مع سورية التي جرى قطع علاقات بعض الدول العربية معها، وتمّ تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية وهي العضو المؤسّس، بذريعة الانتصار للشعب السوري، حتى رأينا ما رأيناه من قتل ودمار وخراب واحتلال في هذا البلد العزيز، وعلى نحو مستمر منذ عشر سنوات ونيّف.
وبحجة الانتصار لليبيا بوجه النظام القائم فيها، جرى قطع العلاقات مع هذا القطر ذي التراث النضالي العريق، بل وجرى استدعاء غزو أطلسي لتدمير هذا البلد وتمزيق وحدته وضرب تماسك مجتمعه .
والأمر ذاته ينطبق على اليمن الذي واجه، ولا يزال، حرباً ضروساً على شعبه ما زالت مستمرة منذ أكثر من 6 سنوات، وحصاراً مضروباً غير مسبوق شمل كلّ مداخله البحرية والجوية والبرية، وكان قد سبق الحرب قطع علاقات بين اليمن ودول شقيقة كان يُنتظر منها أن تمدّ يدها لليمن للمساعدة على نهوضه وليس قصف مدنه وأحيائه ومدارسه ومستشفياته ودور العبادة فيه.
حتى فكرة عزل مصر عن بقية الأقطار العربية بعد معاهدة «كمب ديفيد» في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حرص عروبيون صادقون على رغم معارضتهم الشديدة لتلك المعاهدة ومثيلاتها، والذين أسّسوا في ما بعد المؤتمر القومي العربي عام 1990، على التحذير من مخاطر عزل مصر عن أشقائها العرب، معتبرين أنّ هذا العزل هو الوجه الآخر لهدف المعاهدة المشؤومة القاضي بإخراج مصر من أمّتها لصالح الكيان الصهيوني، ولقد أجرى هؤلاء اتصالات مع قيادات عربية مهّدت مع غيرها من الجهود إلى عودة مصر إلى جامعة الدول العربية.
ولأنّ إجراءً واحداً من إجراءات قطع العلاقات لم يحقّق أغراضه المتعددة، ولأنّ الشعب وحده من دون الحكام هو الذي كان يدفع ثمن هذه الإجراءات «العقابية»، فإننا اليوم لا نرى في قرار بعض دول مجلس التعاون الخليجي بقطع العلاقات مع لبنان، والتلويح بقطع أرزاق لبنانيين يعملون في تلك الدول، إلا خرقاً مؤلماً جديداً في جدار الأخوّة العربية، بل في فكرة العروبة نفسها التي بات زعماء هذه الدول لا يتحدّثون إلاّ عنها لاستخدامها في صراعهم مع دول مجاورة تجمعها بالعرب روابط دينية وحضارية واقتصادية ومصيرية مشتركة. بل يندفع بعضهم إلى تطبيع وتحالف مع العدو الصهيوني فيما هو يقطع العلاقات مع لبنان.
إنّ قطع العلاقات مع لبنان، بذريعة تصريح أطلقه منذ أشهر الوزير جورج قرداحي، أطلق مثله، بل وأشدّ منه، الكثيرون من ساسة المنطقة والعالم حول حرب اليمن وأضرارها على كلّ البلدان المعنيّة بها، هو إساءة لفكرة العروبة والأخوّة العربية أكثر منه إساءة للبنان الذي يُعتبر دائماً منارة حضارية عربية، وبيتاً مفتوحاً لكلّ أبناء أمته، وسلاحاً ممشوقاً بوجه كل أعدء العرب.
إنّ قضية تصريح الوزير جورج قرداحي لا يجوز أن تُعالج عبر إجراءات انتقامية غير متناسبة أصلاً مع حجم «الخطأ» المنسوب إلى الوزير الشجاع، بل عبر حوار بين الحكومات المعنيّة لكي لا تصبح العروبة عروبة قطع العلاقات بين الأشقاء، بل لكي تكون العروبة عروبة تعزز العلاقات بينهم.