«ساوث ستريم»… بوتين يفتتح معركة الغاز عبر تركيا
فارس سعد
بمقدور المراقب لتفاعلات المشهد السياسي الدولي رصد حقيقة تراكم الأزمات والقضايا والملفات الشائكة والعالقة في جهاته الأربع، بعضها ظاهر وبقوة على السطح، والبعض الآخر تحت الرصد، يتحيّن اللحظة والسياقات المواتية للظهور.
فبعد شرارات حرب العملات بين البلدان المتقدّمة والبلدان النامية، تأكد أنّ الحرب هي استمرار للاقتصاد، ولكن بوسائل أخرى. وفي غالب الأوقات فإنّ المعارك لأجل التفوّق الاقتصادي إنما كانت تجري، منذ أربعينات القرن الماضي، بهدوء ليس بين أعداء فقط، بل بين شركاء دوليين أيضاً.
حروب العملات
شهد عام 2010 ميلاد نوع جديد من الحروب، وهو حرب العملات، التي برزت نتيجة لاضطرابات مالية عالمية، استدعت استخدام العملات كسلاح تجاري وسياسي من خلال عقوبات من قبل الدول الغربية التي تتحكم بآلية النظام المالي الحالي، ورشح عام 2014 زميله 2015 ليكون أشدّ التهاباً بالنسبة الى هذه الحرب إذا لم تستطع الدول المتقدّمة الإفلات منها، بإصلاح الشقوق والتصدّعات التي ظهرت في الاقتصاد العالمي من جراء الأزمة المالية العالمية، مما يستلزم إرساء قواعد للتعافي الاقتصادي على أرض صلبة.
خرجت أميركا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 كأقوى دولة في العالم، عسكرياً واقتصادياً، وقبيل نهاية الحرب اجتمعت وفود دول العالم في بريتون وودز لتقرير النظام المالي العالمي بعد الحرب، وتمّ الاتفاق على أن يكون الدولار الأميركي هو عملة التعامل العالمية لقوة الاقتصاد الأميركي وضمان الحكومة الأميركية لثبات سعره بضمان سبائك الذهب الهائلة المودعة في قلعة فورت فوكس الأميركية تحت حراسة عسكرية هائلة، وتمّ تثبيت سعر الدولار على أساس 35 دولاراً لكلّ أوقية من الذهب، وتتعهّد الحكومة الأميركية برفع أوقية الذهب لكلّ من يدفع مقابلها 35 دولاراً والعكس بالعكس.
وظل الحال كذلك حتى عام 1971 عندما غرقت أميركا فى حرب فيتنام التي أرهقت ميزانيتها بمليارات الدولارات، فقامت بأكبر عملية نهب في تاريخ العالم، إذ تخلصت من كمية ضخمة من الذهب المودع في فورت فوكس ببيعه لسداد ديون الحرب، وأعلنت إيقاف العمل بضمان الدولار بالذهب وأنها لن تكون ملزمة بدفع أوقية ذهب لمن يدفع لها 35 دولاراً، وقامت في الوقت نفسه بطبع مليارات الدولارات الورقية من دون أيّ مقابل ذهبي أو خلافه لمواجهة نفقات الحرب، مستندة بذلك إلى قوتها العسكرية والاقتصادية. وقامت بإنذار دول البترول الخليجية بأنّ من يرفض الدولار الورقي الذي لا رصيد له سداداً لثمن البترول يكون تصرّفه إعلاناً للحرب على أميركا، واستسلمت دول البترول، وكانت النتيجة موجة هائلة من التضخم في العالم وارتفاع أسعار الذهب والنفط إلى عنان السماء.
ويمكن تحديد تطوّر النظام المالي الدولي بالتالي:
– تم إبرام اتفاق النظام المالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 على اعتماد الدولار كعملة دولية بتغطية ذهبية بمعدل 35 دولاراً للاونصة .
– في الستينات وأثناء حكم الجنرال شارل ديغول في فرنسا توجه نحو شراء كميات كبيرة من الذهب بواسطة يوسف بيدس رئيس بنك إنترا للاستثمار مما أرعب الولايات المتحدة، خصوصاً أنّ ديغول استكمل حراكه هذا بالانسحاب من الحلف الأطلسي، ما دفع واشنطن إلى العمل على إخراجه من الحكم وبالتالي إفلاس بنك إنترا .
– عام 1971 خرجت الولايات المتحدة الاميركية من القاعدة الذهبية بضمانة الذهب، وذلك بسبب حاجاتها للإنفاق المالي على أثر حرب فيتنام واعتمدت نهجاً جديداً بتطبيع العملات في مقابل سندات للبنك الفيديرالي الأميركي والخاضع للعرض والطلب من دون أي رقابة والحجم التجاري من دون التقيّد بأيّ ضمانات إلا قوة أميركا الاقتصادية التيسير الكمي .
– عام 2014 بدأت دول الاتحاد الاوروبي بطبع عملات جديدة من دون التغطية الذهبية في مقابل سندات للبنك المركزي الأوروبي بمعدل 60 مليار دولار شهرياً وستستمرّ هذه الحالة حتى 30/9/2015، خصوصاً وقد بلغ عدد إصدارات السندات حتى الآن إصدارين ، مما أدّى الى تراجع سعر اليورو الى 1.12 دولار مقابل 1.35 دولار قبل إصدار سندات الدين .
وقد يستمرّ تراجع سعر اليورو الى مستويات أدنى بكثير وهو ينتظر دوره على المقصلة .
ويمكن القول إنّ اعتماد طريق التيسير الكمي هو بمثابة سرقة لكلّ حامل دولار في العالم وقد تعكس انهياراً اقتصادياً شاملاً في وقوع أزمات كبيرة.
تغيّرات في النظام الدولي
ما يحدث اليوم من تغيّرات في النظام الدولي عبر العقوبات على روسيا هو استمرار للحرب الاقتصادية ولكن بأدوات أخرى، غير أنّ الولايات المتحدة اليوم ليست صورة الماضي، عندما كانت في أوج قوتها العسكرية، بعد استخدام القنبلة النووية ضدّ اليابان، حيث استخدمت الذهب ثم الدولار في صراعها الدولي.
الآن تحاول أميركا استخدام السلاح الاقتصادي في وجه روسيا وإيران، ولكن أميركا بعد الحرب العالمية الثانية غير أميركا بعد هزائمها العسكرية في العراق وأفغانستان، وتضعضع الدولار، وصعود قوى دولية كالصين وروسيا ومجموعة «بريكس»، قادرة على إطلاق نظام دولي جديد، ولعل انشاء بنك التنمية لدول «بريكس» برأسمال 100 مليار دولار، وبناء احتياطيات مالية تبلغ قيمتها أكثر من 100 مليار دولار أخرى، وبداية ابرام اتفاقات ثنائية بالعملات المحلية لكلّ بلد كما حدث في الاتفاق بين روسيا ومصر خلال زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الأخيرة إلى القاهرة، حيث يشير ذلك إلى وضع الخطوة الأولى في مواجهة الهيمنة الأميركية وبناء نظام دولي جديد، والجدير ذكره هنا، أنّ روسيا على ما تملكه من مصادر طاقة تطلق شرارة حروب الغاز في وجه الغرب المتوحش.
«ساوث ستريم» سياسي
وفي هذا السياق، لم يعد العالم ينظر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم اكتراث أو لا مبالاة، فالرجل عاد بعناده يفرض روسيا على العالم لاعباً فاعلاً، أو، وهو الأهمّ، لاعباً رئيساً محتملاً على الساحة الدولية.
فالتحديات التي تواجه روسيا أبعد من التأقلم مع أسعار منخفضة للنفط، وحاجاتها الاستراتيجية أعقد من تأمين موازنة الدولة، ومنها بناء صناعات تصديرية منتجة، أو سوق داخلية كبيرة تسمح بالتطوّر والنموّ بعيداً من تصدير المواد الخام و«تعاون» الدول الغربية، وهذه الميزة، تحديداً، هي أهمّ درعٍ تملكه الصين اليوم.
تدرك موسكو أنّ حرب الطاقة هي حرب سياسية بامتياز، وانّ سوق هذه الحرب ترتبط بخنادق الولايات المتحدة المشتعلة عند عتبات الجليد الروسي.
فإعلان الرئيس الروسي إلغاء مشروع أنابيب «ساوث ستريم» ليس مجرّد حدث اقتصادي يوقف العمل بمشروع قُدّرت تكلفته الأولية بعشرة مليارات دولار ثم ارتفعت إلى 30 ملياراً في 2014، وكَلّف شركة «غازبروم» الروسية العملاقة حتى الآن حوالى 4.5 مليار دولار. إنّ إلغاء المشروع والإعلان عن بديل له يعادلان بلغة السياسة إلغاء حلف وإنشاء آخر مع قوى جديدة مختلفة.
كان من المفترض أن ينقل مشروع خط أنابيب «ساوث ستريم» الغاز الطبيعي من البرّ الروسي، تحت البحر الأسود، إلى جنوب أوروبا ووسطها ــ بلغاريا وصربيا والمجر واليونان وسلوفينيا وكرواتيا والنمسا. وكان الغرض الأساسي من هذا الخط ربط أوروبا بروسيا من دون المرور بأوكرانيا التي كانت تنقل حوالى 80 في المئة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا.
الهدف من الاتفاق الروسي – التركي نقل 63 مليار متر مكعّب وإيصالها إلى أوروبا. لكن كلّ شيء لا يزال في مرحلته الأولى، ولا يمكن التنبّؤ بالآتي. وزير الطاقة التركي تانر يلديز قال بعد التوقيع بأيام إنّ العمل جارٍ لإنجاز اتفاقية نهائية، لكن لا يزال من المبكر «نطق الكلمة الأخيرة في شأن هذه المسائل اليوم». وها هو بوتين يعيد التأكيد على أهمية نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وذلك خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس المجري فيكتور أوربان في بودابست في السابع عشر من شباط، حيث قال بوتين «روسيا مستعدة لمدّ خط أنابيب الغاز عبر تركيا بما يلبّي احتياجات أوروبا».
وهكذا، وبإلغاء المشروع واقتراح خط أنابيب روسي ــ تركي مباشر، «تُبَعثِر» موسكو شبكة الطاقة في المنطقة، وتعيد تشكيل شبكة أخرى تنتج منها ديناميات جديدة من العلاقات السياسية بكلّ تداعياتها. إنّ القرار «الاقتصادي» الروسي بإلغاء مشروعٍ كان أصلاً يهدف إلى الضغط على أوكرانيا وبعض الدول الأوروبية الجنوبية الشرقية، سيضرّ بعلاقات موسكو السياسية مع بعض شركائها الأوروبيين في المشروع. وإضافةً إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة لـ «دول الترانزيت» التي وُعِدت بعائدات ضخمة وفرص عمل كثيرة واستثمارات مرادفة للمشروع، سيكبّد بعض هذه الدول خسائر سياسية، مثل المجر وصربيا اللتين أنفقتا قدراً كبيراً من «رأس المال السياسي» في تحدّي الاتحاد الأوروبي لدعم بناء خط الأنابيب هذا.
مصاهرة سياسية أم زواج مصالح؟
وهكذا، عكس دوي قنبلة بوتين بإعلانه عن وقف موسكو العمل بمشروع أنابيب «ساوث ستريم» استراتيجية «اقتصاد الطاقة» في العلاقات الدولية الحالية. واقتصاد الطاقة هذا هو البعد شبه الوحيد الذي يربط روسيا بأوروبا برباط هو أشبه بزواج الإكراه، ويربط روسيا بتركيا برباط أشبه بالمصاهرة السياسية أو زواج المصلحة.
لم يهضم الأوروبيون إعلان بوتين المفاجئ، بالشكل والمضمون، عن إيقاف مشروع «ساوث ستريم» التيار الجنوبي . سنوات من التحضير لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا، عبر تفادي أوكرانيا تحديداً، رماها الكرملين كما لو أنه يئِس من كل هذه اللعبة. ووحده رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان حذر من العقوبات الأوروبية على روسيا وانتقد في جملة شهيرة العقوبات، حين وصف السلوك الأوروبي بأنه «كمن يجدع أنفه كي يغيظ خصمه».
نجاح سياسي وجيوبولوتيكي
ولعلّ أهمّ ما جاء في القمة التي جمعت الرئيسين الروسي والتركي في أنقرة في أول كانون الأول من عام 2014، وفي تصريح بوتين، هو تثبيت عامل اقتصادي جديد – للمرة الأولى بشكل رسمي ــ على أجندات السياسة الدولية. عامل بدأ يرسم استراتيجيات اللاعبين الكبار ويشكل التحالفات ويغيّر في خريطة الأحلاف الدولية في مشارقها ومغاربها، بل لعلّه يغيّر في خريطة الدول ذاتها: عنيتُ به أنابيب نقل النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى.
لا شك في أنّ الخط المقترح الجديد حقق نجاحاً «سياسياً وجيوبولوتيكياً» من خلال خريطة معقدة من شبكات أنابيب نقل الطاقة التي تستولد خريطة معقدة من العلاقات الدولية. وقَدَّرتِ الجغرافيا أن يكون لروسيا وتركيا دور خطير في تكوين هذه الشبكات الاقتصادية والسياسية. فهل يتكامل الدوران وتتأسس علاقة جديدة بين روسيا وتركيا محورها الطاقة وأنابيبها، فتنتهي بذلك تلك العلاقة الباردة شديدة الحساسية التي تضرب جذورها في حرب الأمبراطوريتين 1768-1774 ومن بعدها في حرب القرم 1853-1856؟
ما يمكن استنتاجه أنّ النظام الاقتصادي الدولي الذي فرض على العالم يسير بأنفاق ضبابية إنْ لم نقل مظلمة. فمن صنع هذا النظام في أوج انتصاراته العسكرية قد لا يتمكن من الحفاظ عليه في أوج هزائمه العسكرية وأزماته الاقتصادية وفي مرحلة بروز قوى اقتصادية وعسكرية مواجهة له.