75 عاماً من العطاء الفني الزاخر… رثاء بكلمات أبرز من عاصروا وأحبّوا الراحل الكبير صباح فخري
طارق بصمه جي*
عذراً من أولئك الستة الواقفين على النبعة، فالصباح لن يشرق اليوم.. ولن يصبحوا سبعة!
رحل شادي الألحان وساقي العطاش، غادرنا عرّاب القدود الحلبية بعد أن نشر عبيرها على مسارح العالم، ودّعَنا سفير الطرب الحلبي وأيقونته، بعد أن ناغى البلبل الواقف على شبّاك مشفى الشامي، مُعلناً رحيله في سُكرين من حزنٍ وعجبٍ، وأنينٍ في حروف الشفتين،
ناغى البلبل فوق غصن الفلّ منادياً: قد رحلَ من في تِرحاله الأجل!
سقطَ البلبلُ مغشياً على أوراق القراصية ليسقي بدمعه رونق الأزهار البنفسجية، مثلما سقى الراحل بفنه سجلات الفن الموسيقية بأعذب جدول من السواقي المائية.
أما في أعماق البحار، فقد بكى السمكُ البنّي أيضاً على فراق قده المياس، كونه لم يعد يعجب صياده الماهر ولا بيّاعه الشاطر، بعد أن رحل من تغنى به، فقال:
«انتهينا وانتهى العشق الذي قد كان لحناً للأغاني».
رحل «أبو كلثوم»، عن عمر ناهر 88 عاماً، وترك خلفه إرثاً ثقافياً مهمّاً سيكتب بماء من الذهب في سجل الموسيقى العربية.
انطلقت جنازته المهيبة صباح الخميس 4 تشرين الثاني الحالي، وجابت شوارع دمشق متجهة إلى مسقط رأسه حلب، حشود بالآلاف كانوا بانتظار جثمانه الطاهر، ليصلّوا عليه في جامع عبد الله بن عباس في حلب، بحضور رسمي وشعبي وفني واسع.
بعد الصلاة، انطلق موكب جنازته إلى المقبرة الحديثة ليُوارى الثرى بمشاركة مئات السيارات وآلاف المشاركين.
وعن كلمات من عاصروه وأحبوه قال مستشار رئاسة الجمهورية العربية السورية المهندس بشر رياض يازجي: «يرحل صباح فخري جسداً ويبقى حيّاً في ذاكرتنا.. بإرثه العظيم ملكاً للقدود وسيداً للموشحات، بكلّ ما قدّمه عبر مسيرة إبداعه من أصالة ربطت اسمه بأعرق مدن العالم طرباً… وداعاً صباح فخري».
وعن أهمية التراث اللامادي الذي تركه الراحل، قال الفنان المطرب عمر سرميني، إنّ ما تركه الكبير صباح فخري يُعتبر كنزاً حقيقياً ليس لحلب أو لسورية فحسب، بل للعالم العربي أجمع، حين أضاف دعائم عديدة لقالب الموسيقى العربية من خلال القدّ والموشح والقصيدة وذلك بطريقة مميزة، إضافة إلى العديد من الألحان والأعمال الخالدة».
أضاف:» كان الراحل يتمتع بروح الدعابة والفكاهة، ومحبّاً لقيادة السيارات بسرعة عالية، فهذا ما زلت أذكره حين سافرنا سوياً إلى دمشق، وكان هذا اليوم مفعماً بالسعادة والابتسامة والمرح، كوني كنت أطلب منه التمهّل باستمرار وهو يقول لي: (لا تخف يا عُمر… صباح معه شهادة عمومي).
بدوره الفنان المطرب أحمد خيري (أحد تلاميذه القدامى)، قال: «أذكر حادثة نبيلة، جرت بإحدى حفلات الراحل الكبير بدمشق بمناسبة تكريم أبطال سورية للرياضة (دورة البحر المتوسط)، حيث تقدّم المكرِّمون ليُلبسوا اللاعبين ميداليات ذهبية، ثم تقدّم المحافظ ليُلبس صباح فخري ميدالية ذهبية أيضاً، فرفضها الراحل وقال:
أرغب بالتنازل عنها للكادر الإداري، ثم صفق الجميع له، على هذا الموقف النبيل».
وقال الفنان المطرب عبود حلاق: «تعرّفت على الأستاذ الكبير صباح فخري عام 1997 من خلال نادي شباب العروبة عندما طلب من عازف القانون الأستاذ جلال جوبي، أن يختار له خمسة أصوات من المردّدين (الكورال)، فوقع الاختيار عليّ، وذهبنا إلى منزل الأستاذ صباح في حلب، وشدَوت أمامه موشح «ملا الكاسات» فأعجب به كثيراً… وبعد أيام طلب منّي أن أرافقه إلى حفل في أميركا فذهبنا وقضينا معه شهراً كاملاً في عدة ولايات.
أضاف المطرب حلاق: «هناك موقف لن أنساه ما حييت، عندما اشتريت منزلاً بالتقسيط وكان سعره 350 ألف ليرة سوريّة، دفعت منها مئتان وبقي مئة وخمسين ألفاً… وبعد وفاة القائد الخالد حافظ الأسد عام 2000، عاشت البلاد في حداد على رحيل ذاك الهرم الكبير، فتوقف عملي في الحفلات التي تمّ تأجيلها إلى مواعيد لاحق، وبهذه الحالة لم أستطع تسديد أقساط المنزل، وبتّ مهدّداً بالإخلاء في أيّ لحظة!
ذهبت حينها إلى الأستاذ صباح ورويت له ما حدث للتوسط بيني وبين صاحب البيت، لكنه لم يقبل أن يتركني تحت التهديد، وأصرّ على تسديد كامل الأقساط عني، وقدرها 150 ألف ليرة، وحين عاد موسم الحفلات رفض أن يقتطع هذا المبلغ من أجري الذي كان حينها 3000 ليرة سورية».
من جهته الشاعر الغنائي القدير، صفوح شغالة، قال في هذا الحدث: «اليوم تيتمت حلب، بعدك سيبقى عرش الفن الحلبي شاغراً، رحمة الله عليك يا أستاذ الأساتذة».
أما من لبنان فقال الفنان والمغني ربيع بارود:» فقدنا عموداً من أعمدة الموسيقى العربية الأصيلة، فالأستاذ صباح أضاف صفحات مشرقة إلى سجلات الموسيقى العربية، بصوته الرخيم القوي، وحضوره الذي جاب به العالم سفيراً للفن السوري الحلبي الأصيل».
وعن اختلاف الذائقة السمعية بين الماضي والحاضر، قال بارود: « لا شكّ أنّ عصر السرعة ساهم بتقليص زمن الأغنية العربية من ساعة كاملة إلى 3 دقائق، إنما ما زال الأمل معقوداً علينا نحن الجيل الفني الجديد، أن نقدّم فناً أصيلاً يحمل بدقائقه الثلاث عبقاً من الأصالة وسحر الشرق، وذلك من خلال حفاظنا على الكلمات الشعرية السامية واستخدام المقامات الشرقية في الألحان، إضافةً إلى التوزيع الموسيقي باستخدام آلات (العود والقانون والرق).
الجدير بالذكر أنّ الرئيس الدكتور بشار الأسد قلّد الراحل الكبير صباح فخري، وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة بتاريخ 12 شباط 2007 في دمشق وذلك تقديراً لفنّه وجهده في الحفاظ على الفنّ العربي الموسيقي، ورفعه لراية التراث السوري الأصيل.