المبدع ذو الرؤى الكشفيّة يمثّل اللاوعي الجمعيّ
جورج كعدي
بعد فرويد، اهتمّ كارل غوستاف يونغ بالمبدعين والعباقرة ذوي الرؤى «الكشفيّة» مثل نيتشه وفاغنر وبليك وغوته، ففي اعتقاده لا يمكن أن يكون هذا النوع من الرؤى الكشفيّة مستمدّاً من حياة المبدع الشخصيّة. وفي حين كان فرويد يفسّر تلك الرؤى بأنّها تنشأ عن الطفولة الباكرة، افترض يونغ وجود مستوى للعقل منحه إسم «اللاوعي الجمعيّ»، وكان عالم النفس الكبير هذا على معرفة واسعة بالأساطير والأديان المقارنة، وذا خبرة عياديّة كبيرة بمرض الفصام الشيزوفرينيا فاقت خبرة فرويد. آمن يونغ بأنّ اللاوعي الجمعيّ هو مصدر إنتاج الصور أو النماذج الأوّلية التي تجلّت بأشكال مختلفة في حضارات متعدّدة. فكرته مستمدّة أصلاً من أبحاثه ودراساته في التشريح المقارن يوم كان يدرّس الطبّ، إذ صوّر العقل على نحو مماثل تماماً للجسد، وجعل له بنية ذات تاريخ طويل أنتجت الأنواع الأساسيّة من الصور نفسها، مثلما أنتج الجسد الأنواع ذاتها من الأعضاء. ويصعب على الإنسان العاديّ المحاصر بمتاعب الوجود الواعي أن يتّصل بهذا المستوى العقليّ، إلاّ في منامه أحياناً عندما يتاح له بين حين وآخر ذاك النوع من الأحلام الكشفيّة شديدة التأثير. أمّا الذين يعانون مرضاً عقليّاً أو يكونون على وشك الانهيار فقد تنتابهم أخيلة من النوع المزعج الذي لا يمكن أن يكون مستمدّاً من التجربة الشخصيّة. واختبر يونغ نفسه هذه التجربة ورأى مثل هذه الأطياف يوم عاش فترة اضطراب عقب انفصاله عن فرويد.
المبدع ذو الرؤى الكشفيّة لا يبتكر بحسب يونغ تلك الرؤى بقدر ما هي تسيطر عليه. يقول: «عندما تهيمن قوّة الإبداع، يتحكّم اللاوعي في الحياة ويشكّلها، أكثر ممّا تتحكّم فيها الإرادة الواعية، وتدفع الأنا بقوّة للسير في مجرى خفيّ حيث تمسي مجرّد شاهد عاجز على الحوادث، ويمسي نموّ العمل وتقدّمه قَدَر الشاعر ويحدّد هو سيكولوجيّته. ليس غوته مَنْ يبدع فاوست، بل فاوست هو الذي يبدع غوته. ثم من هو فاوست؟ إنّه أساساً رمز، ولا أعني بذلك أنه تعبير مجازيّ عن أمر مألوف تماماً، بل هو تعبير عن أمر حيّ في أعماق كلّ ألمانيّ، أمر ساعد غوته في إظهاره للوجود».
يتمتع المبدعون «الكشفيّون» في رأي يونغ بقدرة على استشعار المستقبل، فهم على اتصال بالعوامل اللاشعوريّة التي لم تَعُدْ موضع تقدير الإنسان العاديّ، وإن تكن منبئة بحصول تغييرات في المواقف الجماعيّة. ويشير إلى أن الفنّانين من هذا النوع هم طليعة أزمانهم، ومثل على ذلك تلك الثورة التي بدأها الرسّامون الإنطباعيّون الأوائل في نظرتنا إلى العالم، وأدينوا في البداية بسبب تحديثاتهم التي أثارت القلق. ويرى يونغ أن من القسوة على الإنسان أن يكون فنّأناً من النوع المتنبئ، قائلاً: «الفنّ نوع من الدافع الفطريّ الذي يستولي على كائن بشريّ ويجعل منه أداة له. وليس الفنّان شخصاً وهب حرّية الإرادة لكي يسعى إلى تحقيق أهدافه الخاصة، إنّما هو ذاك الذي يتيح للفن تحقيق أهدافه من خلاله هو. والفنان قد تكون له، إنساناً، أحوال مزاجيّة، وإرادة وأهداف شخصيّة. أمّا بوصفه فنّاناً فهو إنسان بمعنى أسمى من ذلك: إنّه إنسان جماعيّ، أداة الحياة النفسيّة اللاواعية للإنسانيّة والقائم على تشكيلها. هذه وظيفته، وهي أحياناً حمل ثقيل جداً يحتّم عليه التضحية بالسعادة وبكلّ شيء يجعل الحياة في نظر الإنسان جديرة بأن يحياها».
تصوّر الفنّان على هذا النحو يلائم ويفسّر سلوك بعض الفنّانين الذين يضحّون في الحقيقة بالمحيطين بهم وبأيّ متعة أخرى لأجل إبداعهم. فاغنر وسترندبرغ مثلان على هذه القسوة. وينبغي أن نتذكّر تأثّر يونغ بشوبنهاور إلى حدّ بعيد، إذ اعتبر شوبنهاور أنّ الأفراد هم تجسيد لإرادة جوهريّة هي خارج المكان الزمان. وتصوّر، مقتدياً بكانط، أنّ المكان والزمان مقولتان إنسانيّتان ذاتيّتان تُفرضان على الواقع وتجبراننا على إدراك العالم بوصفه مكوّناً من مواضيع فرديّة… يتبع