الولايات المتحدة والمنطقة المشرقية: أوهام الانسحاب والحسابات الخاطئة
د. عدنان منصور _
حفلت وسائل إعلام عديدة من صحافة، وتلفزة، ووسائل التواصل الإلكتروني، في الآونة الأخيرة، بتحليلات، ونظريات، وآراء، تؤكد أن الولايات المتحدة مُنيت بهزيمة في أكثر من مكان في المنطقة المشرقية، مما سيعجّل بانسحابها منها، بخاصة بعد التقدّم الملحوظ الذي أحرزه المحور المقاوم لقوى الهيمنة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن المنطقة تبقى في صراع متواصل ضدّ سياسات قوى التسلط الغربية ونفوذها، وهو صراع لم يتوقف منذ انكفاء وتراجع الدور البريطاني والفرنسي عنها بعد الحرب العالمية الثانية، وتبوّؤ الولايات المتحدة الزعامة مكانهما، لتصبح واشنطن في ما بعد، الفاعل، والمحرك، والمتدخل، والمؤثر الأول في شؤون المنطقة.
التدخل الأميركي السافر هذا، أدّى إلى تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة التي سارت على النهج الاستعماري الأوروبي بشكل أشرس، رافضة ترك دول المنطقة تحكم نفسها بنفسها، وبإرادتها الحرة. عوضاً عن ذلك، قامت واشنطن على مدى عقود، بحروب سرية كانت ترمي من ورائها، إلى إخماد التطلعات القومية التحررية العربية الوحدوية، والقبض بكلّ قوة على ثروات المنطقة النفطية والغازية والإمساك بها، والتحكم بعائداتها، والتمركز في منطقة جيوسياسية حساسة، تعتبر من أهمّ المناطق الاستراتيجية في العالم من خلال قواعدها العسكرية المنتشرة في أكثر من مكان.
من الخطأ أو المبالغة الحديث عن هزيمة واشنطن في المنطقة، أو الترويج لانكفائها عنها، وترك الساحة للآخرين.
فهذا الكلام الذي ينطلق من حماسة وعفوية، وحسابات تنقصها الكثير من الدقة والواقعية، لا يعكس حقيقة الأمور، ويساعد على بلورة مسار عملنا في مواجهة قوى الهيمنة والاستغلال.
هناك حالة لا تزال سارية المفعول، وإنْ كنا نريد اقتلاع النفوذ الغربي بأشكاله كافة من المنطقة اليوم قبل الغدـ وهي أن السياسة الأميركية في المنطقة ترتبط إلى حدّ بعيد، بموقع المنطقة المشرقية في غرب آسيا وثرواتها، التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عنها بسهولة كما يتصوّر البعض، أو أن تتوقف عن استغلال مصادر الطاقة فيها، والظفر بعوائدها الكبيرة.
بمجرد معرفة دوافع وأبعاد الحروب السرية لواشنطن في المنطقة والعالم، التي هي في الدرجة الأولى، من أجل الطاقة (النفط والغاز) تصبح حقيقة السياسة الخارجية للولايات المتحدة وغاياتها واضحة للعالم كله.
لا يمكن مواجهة سياسات واشنطن انطلاقاً من آراء، وأفكار، وفرضيات، وتحليلات وآراء خاطئة، كثيراً ما تتصف بنزعة الحماسة المفرطة، وتغلب عليها العفوية، وتغيب عنها الدقة والموضوعية.
إنّ الذهاب بعيداً عن الواقع، لا يصبّ في خدمة ومصلحة من يريد إنهاء الهيمنة الغربية، وتحرر دول المنطقة من النفوذ والسيطرة الأميركية على قرارها.
ليس من الحكمة، الاستخفاف بالنفوذ الأميركي، وتجذره على مدى عقود طويلة في الشرق الأوسط، وإمكاناته الهائلة، وشبكة علاقاته مع شرائح كثيرة من المرتزقة والمأجورين، وعملاء الداخل والخارج، من مسؤولين كانوا أم أفراداً، يعملون لمصالحه، وفي خدمة أهدافه وسياساته بعيدة المدى.
ما كانت المقاومة المتميّزة الباسلة التي حرّرت لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي» لتستخف بالعدو وقدراته. ولم تتعاط معه بحماسة فارغة أو غرور. أو بحسابات وهمية، بل عرفت مواقع القوة والضعف لديه، ما لها وما عليها، وما الذي يجب أن تحضر له وتفعله. المقاومة استعدت، تجهّزت، تسلحت، تدرّبت، وخاضت المعارك في ساحات القتال بكلّ جدارة، وثقة كبيرة بالنفس، لتحقق أول انتصار عربي فعلي على الأرض.
وإذ نحن اليوم في مواجهة مستمرّة مع سياسات الولايات المتحدة ونفوذها واستغلالها، علينا أن لا يأخذنا الوهم، ونجزم أحياناً أن إعادة تموضع واشنطن، أو البحث عن أسلوب وتكتيك آخر لسياساتها، يعني هزيمتها، أو رحيلها عن المنطقة من أجل إخلاء مكانها للآخرين.
واشنطن وأياً كانت المتغيّرات على الساحة المشرقية،
تبقى مصادر الطاقة بالنسبة لها، المحرك الأساسي في رسم سياساتها، واستراتيجيتها في الشرق الأوسط والعالم.. هذا مبدأ واضح وثابت اعتمدته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يتغيّر حتى اليوم.
في عام 1949، وبعد أقلّ من سنة على إنشاء وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي أي»، دبّرت الولايات المتحدة أول انقلاب عسكري ضدّ الرئيس السوري شكري القوتلي، بسبب رفضه إعطاء موافقته كما مجلس النواب، على مشروع مدّ خط أنابيب أميركي، لربط النفط السعودي بموانئ لبنان وسورية. إذ إن الدستور السوري المعمول به قبل انقلاب حسني الزعيم، أعطى الحكومة حقّ التفاوض على المعاهدات والاتفاقيات الدولية وتوقيعها، على أن يقوم مجلس النواب في ما بعد بالتصديق عليها، ويقوم بعده رئيس الجمهورية بإبرامها.
رفض سورية لمشروع الاتفاقية، كونها تعطي امتيازاً لشركة التابلاين مدته سبعين عاماً، في مقابل القليل من عائدات الرسوم السنوية المستوفاة من الشركة للخزينة السورية. جاء حسني الزعيم، دمية الولايات المتحدة وعميلها، ليقوم على الفور بحلّ مجلس النواب السوري، واتخاذ قرارات لها قوة القانون، ليصدق على الاتفاقية كما هي، على رغم المقترحات التي رفعت للحكومة لتعديل بنودها التي تحفظ سيادة سورية وخزينتها العامة وحقوق شعبها. كما قام حسني الزعيم أيضاً بتصديق عدة اتفاقيات مع بريطانيا وفرنسا وبلجيكا تتعلق بالنفط والمصافي والخدمات، وكلها جاءت على حساب مصالح الشعب السوري.
هذا ما فعلته أيضاً واشنطن عندما قام محمد مصدق في إيران بتأميم النفط. إذ كان على الولايات المتحدة الإطاحة بمصدق من خلال عملية «أجاكس» الشهيرة التي دبّرتها الـ «سي آي أي»، التي أرسلت إلى طهران أحد رجالها كيرميت روزفلت لتنفيذ الانقلاب ضدّ مصدق بالتنسيق مع عدد من عناصر استخباراتها، منهم مايلز كوبلاند، وبعد أن جهّزت عصابة كبيرة من العملاء والمأجورين والبلطجية في طهران، لينفذوا ما رسمت لهم، وما طلب إليهم.
حروب أميركا السرية من أجل النفط لم تتوقف، وإنْ تغيّر الأسلوب والتكتيك طالما أن الهدف واحد. وما حرب الولايات المتحدة وحلفائها ضدً سورية ورئيسها الدكتور بشار الأسد، إلا تعبير عن السلوك الأميركي الشرس الذي لم يتغيّر حيال المنطقة. فالحرب على سورية بدأت عام 2000، وليس عام 2011. وذلك عندما اقترحت قطر إنشاء خط أنابيب للغاز بطول 1500 كلم، مروراً بالسعودية والأردن وسورية وصولاً إلى تركيا. هذا الخط رأت فيه روسيا مؤامرة من جانب حلف الناتو، وتهديداً لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، حيث أن %70 من صادرات الغاز الروسي يذهب إلى أوروبا. كما أن الخط القطري، سيؤدي إلى خنق الاقتصاد الروسي، وإنهاء نفوذ موسكو في سوق الطاقة.
بعد رفض سورية لخط أنابيب الغاز القطري، رأت الـ «سي آي أي» عام 2009، «أن تمرّداً في الداخل السوري يؤدّي إلى الإطاحة بالنظام، هو الطريق العملي والحلّ الأنجع لتحقيق الهدف المطلوب، والقيام في ما بعد بتنفيذ مشروع الخط القطري». هكذا بدأت واشنطن من خلال الـ «سي آي أي» بتمويل وتسليح وتدريب جماعات المعارضة، قبل اندلاع أحداث الربيع العربي.
منظمة راند الأميركية RAND Corporation (Research ANd Development)، التي تأسّست عام 1948 من قبل شركة طيران دوغلاس، لتقديم أبحاث وتحليلات للجيش الأميركي، وتموّل من قبل وكالات حكومية وغير حكومية أميركية، ومن منظمات دولية ومؤسسات خاصة، تصبّ اهتمامها اليوم على قضايا ذات أهمية مثل الأمن والطاقة والتعليم والصحة والعلوم والبيئة، والشؤون العالمية والعسكرية.
منظمة راند هذه، أعدّت تقريراً عام 2008، ذكرت فيه، أن السيطرة على احتياطات النفط والغاز، تبقى أولوية استراتيجية لواشنطن. كما رأت ضرورة تنفيذ عمليات للتدخل واتباع سياسة فرّق تسد !
هذا ما جرى عند اندلاع الأحداث في سورية، حيث انشقت بعض العناصر عن الجيش السوري، لتقوم الولايات المتحدة على الفور، بتسليح الجيش الحر، ومئات الميليشيات المسلحة «الجهادية» والإرهابية، التي تلقت تدريبات على يد الأميركيين.
ما يجدر ذكره وملاحظته، هو أن المناطق التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي، تشمل تماماً مسار خط الغاز القطري المقترح. وهذا ما يبيّن بوضوح دوافع ورعاية الولايات المتحدة لتنظيم داعش وقادته، عبر جهازها «سي آي أي»، وجلب المقاتلين من أكثر من ثلاثين بلداً إلى العراق وسورية.
روبرت كندي جونيور، الأكاديمي والناشط الأميركي، ابن شقيق الرئيس جون كندي، كتب مقالة مطولة في مجلة Politico الأميركية في أواخر شهر شباط 2016، جاء فيها: «علينا أن نعترف أن الحرب على سورية هي حرب للسيطرة على الموارد، ولا تختلف كثيراً عن الحروب السرية السابقة، التي لا تعدّ ولا تحصى حول البترول الذي نقاتل من أجله في الشرق الاوسط طوال خمسة وستين عاماً… بمجرد الاعتراف بأنّ الحرب في سورية هي من أجل النفط، تصبح السياسة الخارجية لواشنطن واضحة…
إن الرابح في هذه الحرب، هي شركات النفط، والمرتزقة، إضافة إلى وكالات الاستخبارات التي نما نفوذها على حساب حرياتنا و»الجهاديين» الذين استخدموا في تدخلاتنا»…
في شهر حزيران عام 2003، وبعد أقلّ من شهر من إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش رسمياً انتهاء العمليات الحربية في العراق، أعلن بول ولفوويتز Paul Wolfowitz مساعد وزير الدفاع الأميركي في حينه، دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld، للمندوبين الذين حضروا مؤتمراً دولياً في سنغافورة حول الأمن قائلاً: «لنرى الأمور ببساطة، أن الفرق الأكبر بين العراق وكوريا الشمالية، هو من الناحية الاقتصادية، لم يكن لدينا من خيار في العراق. البلد يسبح في بحر من النفط!».
لم يكن يهمّ واشنطن ولا ولفوويتز أسلحة الدمار الشامل والصواريخ التي تملكها كوريا الشمالية، فهي بنظره أقلّ أهمية بكثير من ضرب العراق والظفر بثرواته النفطية!
إلى الذين تأخذهم الحماسة والوهم، والقراءة الخاطئة، ويعتقدون بأفكارهم، وآرائهم وتحليلاتهم التي لا تتوقف، أن الولايات المتحدة انهزمت وقرّرت الرحيل عن المنطقة، والتوجه إلى مكان آخر في جنوب شرقي آسيا، نقول: إن مخالب واشنطن في المنطقة لا تزال قوية جداً. وانطلاقاً من هذا الواقع، يجب علينا فهم أهدافها وغاياتها، وأساليبها، وتكتيكها حتى لا نتيه ونضيع البوصلة، ونخطئ في تقديراتنا وتوقعاتنا، ونحن نواجه قوى مهيمنة متجذرة منذ عقود، حيث استئصال جذورها يحتاج إلى المزيد الوعي والفهم والعمل والحسابات الدقيقة، بعيداً من العاطفة والحماسة، ومعرفة ما يدور في خلد هذه القوى، وما ترسمه، وكيفية التعاطي معها، ومواجهتها من خلال استثمار كلّ الطاقات والوسائل الكفيلة لإبعاد المنطقة عن تسلطها واستغلالها ونفوذها.
إن تحرير لبنان من الاحتلال “الإسرائيلي”، تطلب جهوداً كبيرة، وسنوات مريرة، وتخطيطاً متواصلاً، وعملاً مضنياً، وإرادة حية، ومقاومة صلبة. ولم تكن مقاومة لبنان للاحتلال “الإسرائيلي” تستند إلى النظريات والتحليلات الخاطئة أو الاستخفاف بقدرات العدو “الإسرائيلي” وجاهزيته، أو الاعتداد الفارغ، إنما أخذت بالمبدأ القائل وعملت في ضوئه: “لا يفلّ الحديد إلا الحديد”.
لا يظنن أحد أن الولايات المتحدة انسحبت من المنطقة أو تستعدّ للرحيل عنها، طالما أنها تعتبر الشرق الأوسط ومنه منطقتنا المشرقية جزءاً لا يتجزأ من مجالها الحيوي ومن أمنها القومي، وبناء عليه، ستستمرّ في سياساتها وتدخلاتها في شؤون المنطقة واستغلال ثرواتها.
يبقى على القوى الوطنية في المنطقة أن تدرك هذا الأمر، وتواجهه برؤية ثاقبة، وبعد نظر، وبوحدة صف، وهدف مشترك على الأرض، لإزالة قوى النفوذ والتسلط عنها، مثل ما أزيل الاحتلال “الإسرائيلي” عن أرضنا.